وإرادته من نفسه أن يلطف بعبده ويوفقه ويعينه ولا يخلى بينه وبين نفسه، وهذا محض فعله وفضله، وهو سبحانه أعلم بالمحل الذى يصلح لهذا الفضل ويليق به ويثمر [فيه] ويزكو به. وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى بقوله {وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّيَقُولوَاْ أَهَؤُلآءِ مَنّ اللهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ}[الأنعام: ٥٣] ، فأخبر سبحانه أنه أعلم بمن يعرف قدر هذه النعمة ويشكره عليها.
عليها فإن أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة، فمن لم يعرف النعمة، بل كان جاهلاً بها لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضاً، ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحد المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعم وأقر بها ولم يجحدها ولكن لم يخضع له ويحبه ويرض به وعنه لم يشكرها أيضاً، ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقربها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضى به وعنه واستعملها فى محابه وطاعته فهذا هو الشاكر لها. فلا بد فى الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم- وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له- كما فى صحيح البخارى عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَيِّدُ الاسْتِغْفَار أَنْ يَقُولَ العَبْدُ: اللَّهُم أَنْتَ رَبِّى لا إلَهَ إِلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِى وأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَى، وَأَبُوءُ بِذَنْبِى، فَاغْفِرْ لِى فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، مَنْ قَالَهَا إِذَا أَصْبَحَ مُوقِناً بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ ومن قالها إذا أمسى موقناً بها فمات من ليلته دخل الجنة، فقوله: "أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَى" يتضمن الإقرار والإنابة إلى الله بعبوديته، فإن المباءَة هى التى يبوءُ إليها الشخص- أى يرجع إليها رجوع استقرار- والمباءَة هى المستقر، ومنه قوله [صلى الله عليه وسلم] : " مَنْ كَذِبَ علَى مُتَعَمِداً فَلْيَتَبَوّأْ مَقْعَدَه مِنَ النَّارِ"، أى ليتخذ مقعده من النار مباءَة يلزمه ويستقر فيه، لا كالمنزل الذى ينزله ثم يرحل عنه. فالعبد يبوءُ إلى الله [عز وجل] بنعمته عليه، ويبوءُ بذنبه، ويرجع إليه بالاعتراف بهذا وبهذا رجوع مطمئن إلى ربه منيب إليه، ليس رجوع من أقبل عليه ثم أعرض عنه، بل رجوع من لا يعرض عن ربه بل لا يزال مقبلاً عليه إذا كان لا بد له منه، فهو معبوده وهو مستغاثه، لا صلاح له إلا بعبادته، فإن لم يكن معبوده هلك وفسد، ولا يمكن أن يعبده إلا بإعانته. وفى الحديث: "مثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ