فقوله: "أبوءُ" يتضمن أنى وإن جلت كما يجول الفرس- إما بالذنب وإما بالتقصير فى الشكر- فإنى راجع منيب أوّاب إليك، رجوع من لا غنى له عنك. وذكر النعمة والذنب لأن العبد دائماً يتقلب بينهما، فهو بين نعمة من ربه وذنب منه هو، كما فى الأثر الإلهى: "ابنَ آدم خيرى إليك نازل، وشرك إلى صاعد، كم أتحبب إليك بالنعم وأنا غنى عنك، وكم تتبغض إلى بالمعاصى وأنت فقير إلى ولا يزال الملك الكريم يعرج إلى منك بعمل قبيح"
وكان فى زمن الحسن البصرى شاب لا يرى إلا هـ، وحدفسأله الحسن عن ذلك فقال: إنى أجدنى بين نعمة من الله وذنب منى فأريد أن أُحدث للنعمة شكراً وللذنب استغفاراً، فذلك الذى شغلنى عن الناس أو كما قال. فقال له: أنت أفقه [عندى] من الحسن.
فالخير كله من الله كما قال تعالى:{وَمَا بِكُم مِّنْ نِعمَةٍ فَمِنَ الله}[النحل: ٥٣] ، وقال تعالى {وَاعْلَمُوَاْ أَنّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مّنَ الأمْرِ لَعَنِتّمْ وَلَكِنّ اللهَ حَبّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَنعْمَةً}[الحجرات: ٧- ٨] ، وقال:{يَمُنّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاّ تَمُنّواْ عَلَيّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[الحجرات: ١٧] ، وقال تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة: ٦- ٧] ، وهؤلاء المنعم عليهم هم المذكورون فى قوله:{وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرّسُولَ فَأُوْلئِكَ مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مّنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشّهَدَآءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}[النساء:٦٩] فالنعم كلها [من نعم الدين والدنيا وهو أن الأعمال فى الدنيا والآخرة] من نعم الله ومنه وفضله على عبده وهو سبحانه- وإن كان أجود الأجودين وأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين- فإنه أحكم الحاكمين وأعدل العادلين، لا يضع الأشياء إلا فى مواضعها اللائقة بها ولا يناقض جوده ورحمته وفضله حكمته وعدله. ولو رأى العقلاءُ واحداً منهم قد وضع المسك فى الحشوس والأخلية ووضع النجاسات والقاذورات فى مواضع الطيب والنظافة لاشتد نكيرهم عليه والقدح فى عقله ونسبوه إلى السفه وخلاف الحكمة،