للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نعمته عليهم واختصاصه إياهم دون غيرهم بكرامته وثوابه؟ وهل فى الحكمة الإلهية تعطيل الخير الكثير لأجل شر جزئى يكون من لوازمه؟ فهذا الغيث الذى يحيى به الله البلاد والعباد والشجر والدواب. كم يحبس من مسافر، ويمنع من قصاد، ويهدم من بناءٍ، ويعوق [عن] مصلحة؟ ولكن أين هذا مما يحصل به من المصالح؟ وهل هذه المفاسد فى جنب مصالحه إلا كتفلة فى بحر؟ وهل تعطيله لئلا تحصل به هذه المفاسد إلا موجباً لأعظم المفاسد والهلاك؟ وهذه الشمس التى سخرها الله لمنافع عباده وإنضاج ثمارهم وأقواتهم وتربية أبدانهم وأبدان الحيوانات والطير، وفيها من المنافع والمصالح ما فيها كم تؤذى مسافراً وغيره بحرّها، وكم تجفف رطوبة وكم تعطش حيواناً، وكم تحبس عن مصلحة، وكم [تشف] من مورد وتحرق من زرع؟ ولكن أين يقع هذا فى جنب ما فيها من المنافع والمصالح الضرورية المكملة؟ فتعطيل الخير الكثير لأجل الشر اليسير شر كثير، وهو خلاف موجب الحكمة الذى تنزه الله سبحانه عنه.

قلت لشيخ الإسلام: فقد كان من الممكن خلق هذه الأمور مجردة عن المفاسد مشتملة على المصلحة الخالصة فقال: خلق هذه الطبيعة بدون لوازمها ممتنع، فإن وجود الملزوم بدون لازمه محال، ولو خلقت على غير هذا الوجه لكانت غير هذه، ولكان عالماً آخر غير هذا. قال: ومن الأشياء ما تكون ذاته مستلزمة لنوع من الأمور لا ينفك عنه- كالحركة مثلاً المستلزمة لكونها لا تبقى- فإذا قيل: لما لم تخلق الحركة المعينة باقية؟ قيل: لأن ذات الحركة تتضمن النقلة من مكان إلى مكان والتحول من حال إلى حال، فإذا قدر ما ليس كذلك لم يكن حركة. ونفس الإنسان هى فى ذاتها جاهلة عاجزة فقيرة كما قال تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِن بُطُونِ أُمَّهَاتِكِمْ لا تَعْلَمُونَ شَيئاً} [النحل: ٧٨] ، وإنما [يأتيها] العلم والقدرة والغنى من الله بفضله ورحمته، فما حصل لها من كمال وخير فمن الله، وما حصل لها من عجز وفقر وجهل يوجب الظلم والشر فهو منها ومن حقيقتها. وهذه أمور عدمية، وليس لها من نفسها وجود ولا كمال والأمور العدمية من لوازم وجودها، ولو جعلت على غير ذلك لم تكن هى هذه النفس الإنسانية بل مخلوقاً آخر.

<<  <   >  >>