للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بتفويت ذلك الشر المقابل له، وهذا كالشمس: فإن الخير الحاصل بها أنفع للخلق وأكثر وأثبت وأصلح من تفويته بتفويت الشر المقابل له بها، وأين نفع الشمس وصلاح النبات والحيوان بها من نفع الرسل وصلاح [القلوب] الوجود بهم؟ بل أين ذلك من نفع سيد ولد آدم وصلاح الأبدان والدين والدنيا والآخرة به؟

وقد ضرب للنفس الإِنسانية وما فيها من الخير والشر مثل بدولاب أَو طاحون شديد الدوران، أَى شيء خطفه أَلقاه تحته وأَفسده، وعنده قيِّمة الذى يديره وقد أَحكم أَمره لينتفع به ولا يضر أَحداً، فربما جاءَ الغر الذى لا يعرف فيتقرب منه فيخرق ثوبه [أوبدنه] أَو يؤذيه، فإذا قيل لصاحبه: لم لم تجعله ساكناً لا يؤذى من اقترب منه؟ قال: هذه الصفة اللازمة التى كان بها دولاباً وطاحوناً، ولو [جعل] على غير هذه الصفة لم تحصل به الحكمة المطلوبة منه. وكذلك إذا أوقدنا نار الأَتون التى تحرق ما وقع فيها وعندها وقاد حاذق يحشوها، فإذا غفل عنها أَفسدت وإذا أَراد أحد أَن يقرب منها نهاه وحذره، فإذا استغفله من قرب منها حتى أَحرقته لم يقل لصاحب النار: هلا قللت حرها لئلا تفسد من يقرب منها وتحرقه؟ فإنه يقول: هذه صفتها التى لا يحصل المقصود منها إلا بها، ولو جعلتها دون ذلك لم تحرق أَحجار الكلس، ولم تطبخ الآجر، ولم تنضج الأَطعمة الغليظة ونحو ذلك، فما يحصل من الدولاب والطاحون ومن النار من نفعها هو من فضل الله ورحمته، وما يحصل بها من شر هو من طبيعتها التى خلقت عليها والتى لا تكون ناراً إلا بها، فلو خرجت عن تلك الطبيعة لم تكن ناراً، وكذلك النفس: فما يحصل لها من شر فهو منها ومن طبيعتها ولوازم نقصها وعدمها وما يحصل لها من خير فهو من فضل الله ورحمته، والله خالقها وخالق كل شيء قام بها من قدرة وإرادة وعلم وعمل وغير ذلك، فأَما الأُمور العدمية فهى باقية على ما [كانت] عليه من العدم، والإِنسان جاهل ظالم بالضرورة كما قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: ٧٢] ، فإِن الله أَخرجه من بطن أُمه لا يعلم شيئاً [والظلم هو النقص، كما قال تعالى: {آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئاً} [الكهف: ٣٣] أى ما نقص منه شيئاً] ، وهى ظالمة نفسها فهى الظالمة والمظلومة، إِذ كانت منقوصة من كمالها بعدم الكمالات أَو أَكثرها بها، وتلك أُخرى فصار عدمها مستلزماً لعدم تلك الكمالات [فعظم النقص والتعب كسبه وفقدت من لذاتها وسرورها ونعيمها وبهجتها وروحها بحسب ما فعلت من تلك الكمالات] التى لا سعادة لها بدونها،

<<  <   >  >>