ونظير ذلك أيضاً أن تكذيب أعداِء الرسل وردهم ما جاؤوهم به كان من الأسباب الموجبة ظهور براهين صدق الرسل ودفع ما احتج به أعداؤهم عليهم من الشبه الداحضة ودحض حججهم الباطلة وتقرير طرق الرسالة وإيضاح أدلتها، فإن الباطل كلما ظهر فساده وبطلانه أسفر وجه الحق واستنارت معالمه ووضحت سبله وتقررت براهينه، فكسر الباطل ودحض حججه وإقامة الدليل على بطلانه من أدلة الحق وبراهينه.
فتأمل كيف اقتضى الحق وجود الباطل، وكيف تم ظهور الحق بوجود الباطل، وكيف كان كفر أعداِ الرسل بهم وتكذيبهم لهم ودفعهم ما جاؤوا به وهو من تمام صدق الرسل وثبوت رسالات الله وقيام حججه على العباد، ولنضرب لذلك مثالاً يتبين به، وهو ملك له عبد قد توحد فى العالم بالشجاعة والبسالة والناس بين مصدق ومكذب، فمن قائل: هو كذلك ومن قائل: هو بخلاف ما يظن به فإنه لم يقابل الشجعان ولا واجه الأقران، ولو بارز الأقران وقابل الشجاعة لظهر أمره وانكشف حاله. فسمع به شجعان العالم وأبطالهم فقصدوه من كل صوب وأتوه من كل قطر، فأراد الملك أن يظهر لرعيته ما هو عليه من الشجاعة فمكن أولئك الشجعان من منازلته ومقاومته وقال: دونكم وإياه وشأنكم به. فهل تسليط الملك لأولئك على عبده ومملوكه إلا لإعلاءِ شأْنه وإظهار شجاعته فى العالم وتخويف أعدائه به، وقضاءِ الملك أوطاره به، كما يترتب على هذا إظهار شجاعة عبده وقوته وحصول مقصوده بذلك، فكذلك يترتب عليه ظهور كذب من ادعى مقاومته وظهور عجزهم وفضيحتهم وخزيهم وأنهم ليسوا ممن يصلح لمهمات الملك وحوائجه فإذا عدل بهم عن مهماته وولايته وعدل بها عنهم كان ذلك مقتضى حكمة الملك وحسن تصرفه فى ملكه وأنه لو استعملهم فى تلك المهمات لتشوش أمر المملكة وحصل الخلل والفساد والله أعلم بالشاكرين.
والمقصود أن خلق الأسباب المضادة للحق وإظهارها فى مقابلة الحق من أبين دلالته وشواهده، فكان فى خلقها من الحكمة ما لو فاتت [لفاتت] تلك الحكمة، وهى أحب إلى الله من تفويتها بتقدير تفويت هذه الأسباب. والله أعلم.