الله سبحانه، وأَن هذا تقرير لعالم آخر وتعطيل الأسباب التى نصبها الله سبحانه مقتضيات لمسبباتها، وأَن تلك الأَسباب مظهر حكمته وحمده وموضع تصرفه لخلقه وأمره، فتقدير تعطيلها تعطيل للخلق والأمر، وهو أَشد منافاة للحكمة وإبطالاً لها، واقتضاءُ هذه الأسباب لمسبابتها كاقتضاء الغايات لأسبابها، فتعطيلها [عنها] قدح فى الحكمة وتفويت لمصلحة العالم التى عليها نظامه وبها قوامه.
ولكن الرب سبحانه قد يخرق العادة ويعطلها عن مقتضياتها أحياناً إِذا كان فيه مصلحة راجحة على مفسدة فوات تلك المسببات، كما عطل النار التى أُلقى فيها إِبراهيم وجعلها عليه برداً وسلاماً عن الإِحراق لما فى ذلك من المصالح العظيمة، وكذلك تعطيل الماءِ عن إِغراق موسى وقومه وعما خلق عليه من الإِسالة والتقاء أَجزائه بعضها ببعض هو لما فيه من المصالح العظيمة والآيات الباهرة والحكمة التامة التى ظهرت فى الوجود وترتب عليها من مصالح الدنيا والآخرة ما ترتب، فهكذا سبحانه سائر أفعاله، مع أنه أشهد عباده بذلك أنه مسبب الأسباب وأن الأسباب خلقه وملكه وأنه يملك تعطيلها عن مقتضياتها وآثارها، وأن [جعلها] كذلك لم يكن من ذاتها وأنفسها، بل هو الذى جعلها كذلك وأودع فيها من القوى والطبائع ما اقتضت به آثارها، أنه إِن شاء أن يسلبها إياها سلبها لا كما يقول أعداؤه من الفلاسفة والطبائعيين وزنادقة الأطباءِ أنه ليس فى الإِمكان تجريد هذه الأسباب عن آثارها وموجباتها ويقولون: لا تعطيل فى الطبيعة، وليست الطبيعة عندهم مربوبة مقهورة تحت قهر قاهر وتسخير مسخر يصرفها كيف يشاء، بل هى المتصرفة المدبرة، ولا كما يقول من نقص علمه ومعرفته بأسرار مخلوقاته وما أودعها من القوى والطبائع والغرائز وبالأسباب التى ربط بها خلقه وأَمره وثوابه وعقابه، فجحد ذلك كله ورد الأمر إلى مشيئة محضة مجردة عن الحكمة والغاية وعن ارتباط العالم بعضه ببعض ارتباط الأسباب بمسبباتها والقوى بمحالها.
ثم المحذور اللازم من إِنكار الفاعل المختار الفعال لما يريد بقدرته ومشيئته فوق كل محذور، فإِن القائل بذلك يجعل هذه الشرور بأسرها لازمة له لزوم الطفل لحامله والحرارة للنار ولا يمكنه دفعها ولا تخليص الحرارة منها، فهم فروا من إضافة الشر إلى خلقه [ومشيئته واختياره ثم ألزموه إياه وأضافوه إليه إضافة لا يمكن إزالتها مع تعطيل قدرته ومشيئته وخلقه] وعلمه بتفاصيل أحوال عباده، وفى ذلك تعطيل ربوبيته للعاملين، ففروا من محذور بالتزام