وهذا كما نزهه الجهمية عن استوائه على عرشه وعلوّه على مخلوقاته، فإنه فرار من التحيز والجهة، ثم جعلوه سبحانه فى كل مكان مخالطاً للقاذورات والأماكن المكروهات وكل مكان يأْنف العاقل من مجاورته، ففروا من تخصيصه بالعلوّ فعمموا به كل مكان.
ولما علمت الفرعونية بطلان هذا المذهب فروا إلى شر منه فأخلوا داخل العالم وخارجه منه البتة وقالوا: ليس فوق العرش رب يعبد، ولا إِله يُصَلَى له ويسجد، ولا ترفع إليه الأَيدى، ولا يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح، ولا عرج بمحمد صلى الله عليه وسلم إليه بل عرج به إلى عدم صرف، ولا فرق بالنسبة إِليه بين العرش وبين أَسفل السافلين، ومن المعلوم أَنه ليس موجوداً فى أَسفل سافلين، فإذا لم يكن موجوداً فوق العرش فهذا إعدام له البتة وتعطيل لوجوده.
فلما [رأت] الحلولية وإِخوانهم من الاتحادية أشباه النصارى ما فى ذلك من الإِحالة قالوا: بل هو هذا الوجود السارى فى الموجودات [الظاهر] فيها على اختلاف صورها وأنواعها بحسنها فهو فى الماء ماءٌ، وفى الخمر خمر، وفى النار نار، وهو حقيقة كل شيء وماهيته، فنزهوه عن استوائه على عرشه وجعلوه وجود كل موجود خسيس أو شريف، صغير أَو كبير طيب أَو غيره، تعالى الله عما يقول أعداؤه علواً كبيراً، وكذلك القائلون بقدم العالم نزهوه عن قيام الإرادات والأَفعال المتجددة به، ثم جعلوا جميع الحوادث لازمة له لا ينفك عنها، ونزهوه عن إرادته [لخلق العالم وأن يكون صدوره عن مشيئته وإرادته] وجعلوه لازماً لذاته كالمضطر إلى صدوره عنه.
وكذلك المعتزلة الجهمية نزهوه عن صفات كماله لئلا يقعوا فى تشبيه، ثم شبهوه بخلقه فى أَفعاله، وحكموا عليه بحسن ما يحسن منهم وقبح ما يقبح منهم، مع تشبيه فى سلب صفات كماله بالجمادات والناقصات، وأن من فر من إثبات السمع والبصر والكلام والحياة له- لئلا يشبّهه- فقد شبهه بالأَحجار التى لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم.
ومن عطله عن صفة الكلام لما يلزم من تشبيه بزعمه فقد شبهه بأصحاب الخرس، والآفات الممتنع منهم الكلام، ومن نزهه عن نزوله كل ليلة إلى سماءِ الدنيا، ودنوه عشية عرفة من أَهل الموقف، ومجيئه يوم [القيامة]