له سعة إبطائه وحلمه ومغفرته لمن أساء إليه، فإنه إذا شهد نفسه مع وبه سبحانه مسيئاً خاطئاً مذنباً- مع فرط إحسانه إليه وبره وشدة حاجته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين وهذا حاله مع ربه- فكيف يطمع أَن يستقيم له الخلق ويعاملوه بمحض الإحسان وهو لم يعامل ربه بتلك المعاملة؟ وكيف يطمع أن يطيعه مملوكه وولده وزوجته فى كل ما يريد وهو مع ربه ليس كذلك، وهذا يوجب أن يغفر لهم ويسامحهم ويعفو عنهم ويغضى عن الاستقصاءِ فى طلب حقه قبلهم.
قاعدة: كثيراً ما يتكرر فى القرآن ذكر الإِنابة والأَمر بها كقوله تعالى: {وَأَنِيبوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ}[الزمر: ٥٤] ، وقوله حكاية عن شعيب أنه قال:{وَمَا تَوْفِيقِى إِلا باللهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[هود: ٨٨] ، وقوله:{تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِ عَبْدٍ مُنِيبٍ}[سورة ق: ٨] ، وقوله:{إِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}[الرعد: ٢٧] ، وقوله عن نبيه داود:{وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ}[سورة ص: ٢٤] ، والإنابة الرجوع إلى الله وانصراف دواعى القلب وجواذبه إليه، وهى تتضمن المحبة والخشية، فإِن المنيب محب لمن أَناب إليه خاضع له خاشع ذليل. والناس فى إِنابتهم على درجات متفاوتة فمنهم المنيب إلى الله بالرجوع إليه من المخالفات والمعاصى، وهذه الإنابة مصدرها مطالعة الوعيد، والحامل عليها العلم والخشية والحذر، ومنهم المنيب إليه بالدخول فى أَنواع العبادات والقربات، فهو ساع فيها بجهده وقد حبب إليه فعل الطاعات وأَنواع القربات، وهذه الإِنابة مصدرها الرجاءُ ومطالعة الوعد والثواب ومحبة الكرامة من الله وهؤلاء أبسط نفوساً من أهل القسم الأول وأشرح صدوراً وجانب الرجاءِ ومطالعة الرحمة والمنة أغلب عليهم، وإلا فكل واحد من الفريقين منيب بالأمرين جميعاً، ولكن خوف هؤلاء اندرج فى رجائهم فأَنابوا بالعبادات، ورجاء الأَولين اندرج تحت خوفهم فكانت إِنابتهم بترك المخالفات ومنهم المنيب إلى الله بالتضرع والدعاءِ والافتقار إليه والرغبة وسؤال الحاجات كلها منه.
ومصدر هذه الإنابة شهود الفضل والمنة والغنى والكرم والقدرة، فأنزلوا به حوائجهم وعلقوا به آمالهم، فإنابتهم إِليه من هذه الجهة مع قيامهم بالأَمر والنهى، ولكن إِنابتهم الخاصة إِنما هى من هذه الجهة، وأَما الأَعمال فلم يرزقوا فيها الإِنابة الخاصة وأَملهم المنيب إليه عند الشدائد والضراءِ فقط إِنابة اضطرار