للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِى تَمُرُّ مَرَّ السَّحَاب} [النمل:٨٨] . وليس العجب من سائر فى ليله ونهاره وهو فى الثرى لم يبرح من مكانه، وإنما العجب من ساكن لا يرى عليه أَثر السفر وقد قطع المراحل والمفاوز، فسائر قد ركبته نفسه فهو حاملها سائر بها ملبوك يعاقبها وتعاقبه ويجرها وتهرب منه ويخطو بها خطوة إلى أَمامه فتجذبه خطوتين إلى ورائه، فهو معها فى جهد وهى معه كذلك، وسائر قد ركب نفسه وملك عنانها فهو يسوقها كيف شاءَ وأَين شاءَ لا تلتوى عليه ولا تنجذب ولا تهرب منه، بل هى معه كالأسير الضعيف فى يد مالكه وآسره وكالدابة الريضة المنقادة فى يد سائسها وراكبها، فهى منقادة معه حيث قادها، فإِذا رام التقدم جمزت به وأَسرعت، فإذا أَرسلها سارت به وجرت فى الحلبة إلى الغاية ولا يردها شيء فتسير به وهو ساكن على ظهرها، ليس كالذى نزل عنها فهو يجرها بلجامها ويشحطها ولا تنشحط، فشتان ما بين المسافرين فتأَمل هذا المثل فإِنه مطابق لحال السائرين المذكورين، والله يختص برحمته من يشاءُ.

فصل

ومن شأْن القوم أَن تنسلخ نفوسهم من التدبير والاختيار الذى يخالف تدبير [ربهم] تعالى واختياره، بل قد سلموا إليه سبحانه التدبير كله، فلا يزاحم تدبيرهم تدبيره ولا اختيارهم اختياره، لتيقنهم أَنه الملك القاهر القابض على نواصى الخلق المتولى [لتدبير] أَمر العالم كله، وتيقنهم مع ذلك أَنه الحكيم فى أَفعاله الذى لا تخرج أَفعاله عن الحكمة والمصلحة والرحمة، فلم يدخلوا أَنفسهم معه فى تدبيره لملكه وتصريفه أُمور عباده بلو كان كذا وكذا، ولا بعسى ولعل ولا بليت، بل ربهم [تعالى] أَجل وأَعظم فى قلوبهم من أَن يعترضوا عليه أَو يتسخطوا تدبيره أو يتمنوا سواه، وهم أَعلم به وأعرف بأسمائه وصفاته من أَن يتهموه فى تدبيره أَو يظنوا به الإخلال بمقتضى حكمته وعدله، بل هو ناظر بعين قلبه إلى باريء الأَشياء وفاطرها، ناظر إلى إتقان صنعه، مشاهد لحكمته فيه وإن لم يخرج ذلك على مكاييل عقول البشر وعوائدهم ومألوفاتهم.

قال بعض السلف: لو قرض جسمى بالمقاريض أَحب إِلى من أن أقول لشيء قضاه الله: ليته لم يقضه.

وقال آخر: أَذنبت ذنباً أبكى عليه منذ ثلاثين سنة. وكان قد اجتهد فى العبادة قيل له: ما هو؟ قال: قلت مرة لشيء كان: ليته لم يكن. وبعض العارفين يجعل عيب المخلوقات

<<  <   >  >>