للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتنقيصها بمنزلة العيب لصانعها وخالقها، لأنها صنعه وأَثر حكمته، وهو سبحانه أحسن كل شيء فى خلقه وأَتقن كل شيء وهو أحكم الحاكمين وأَحسن الخالقين، له فى كل شيء حكمة بالغة وفى كل مصنوع صنع متقن، والرجل إذا عاب صنعة [رجل آخر وذمها سرى ذلك إلى صانعها فمن عاب صنعة] الرب سبحانه بلا إذنه سرى ذلك إلى الصانع، لأنه كذلك صنعها عن حكمته أظهرها، إذ كانت الصنعة مجبولة لم تصنع نفسها ولا صنع لها فى خلقها.

[والعارف] لا يعيب إلا ما عابه الله ولا يذم إلا ما ذمه، وإذا سبق إلى قلبه ولسانه عيب ما لم يعبه الله وذم ما لم يذمه الله تاب إلى الله منه كما يتوب صاحب الذنب من ذنبه فإنه يستحى من الله أن يكون فى داره وهو يعيب آلات تلك الدار وما فيها، فهو يرى نفسه بمنزلة رجل دخل إلى دار ملك من الملوك ورأَى ما فيها من الآلات والبناء والترتيب، فأَقبل يعيب منها بعضها ويذمه ويقول: لو كان كذا بدل كذا لكان خيراً، ولو كان هذا فى مكان هذا لكان أَولى وشاهد الملكَ يولى ويعزل ويحرم ويعطى فجعل يقول: لو ولى هذا مكان فلان كان خيراً، ولو عزل هذا المتولى لكان أَولى، ولو عوفى هذا.. ولو أَغنى هذا.. فكيف يكون مقت الملك لهذا المعترض وإخراجه له من قربه؟ وكذلك لو أضافه صاحب له فقدم إليه طعاماً فجعل يعيب صفته ويذمه، أَكان ذلك يهون على صاحب الطعام؟ قالت عائشة: "مَا عَابَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط، إِن اشتهى شيئاً أَكله وإِلا تركه ".

والمقصود أن من شأْن القوم ترك الاهتمام بالتدبير والاختيار، بل همهم كله فى إقامة حقه عليهم، وأَما التدبير العام والخاص فقد سلموه لولى الأَمر كله ومالكه الفعال لما يريد.

ولعلك تقول: من ذا الذى ينازع الله فى تدبيره؟ فانظر إلى نفسك- فى عجزها وضعفها وجهلها- كيف هى [عرضة] للمنازعة منازعة جاهل عاجز ضعيف لو قدر لظهرت منه العجائب، فسبحان من أَذله بعجزه وضعفه وجهله، وأَراه العبر فى نفسه لو كان ذا بصر: كيف هو عاجز القدرة، جبار الإرادة، عبد مربوب، مدبر مملوك ليس له من الأَمر شيء، وهو مع ذلك ينازع الله ربوبيته وحكمته وتدبيره، لا يرضى بما رضى الله به، ولا يسكن عند مجارى أَقداره، بل هو عبد ضعيف مسكين يتعاطى الربوبية، فقير مسكين فى مجموع حالاته، ويرى نفسه غنياً، جاهل ظالم ويرى نفسه عارفاً محسناً، فما أجهله بنفسه وبربه،

<<  <   >  >>