للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وما أتركه لحقه [وأَشده] إضاعته لحظه، ولو أَحضر رشده لرأَى ناصيته ونواصى الخلائق بيد الله سبحانه وتعالى يحفظها ويرفعها كيف [شاء] وقلوبهم بيده سبحانه وفى قبضته يقلبها كيف يشاءُ، يزيغ منها من يشاءُ ويقيم من يشاءُ، ولكان هذا غالباً على شهود قلبه فيغيب به عن مشيئاته وإرادته واختياره، ولعرف أَن التدبير والركون إلى حول العبد وقوته من الجهل بنفسه وبربه، فينفى العلمُ بالله الْجهلَ عن قلبه، فتمحى منه الإرادات والمشيئات والتدبيرات، ويفوضها إلى مالك القلوب والنواصى، فصير بذلك عبداً لربه تقلبه يد القدرة، ويصير ابن وقته لا ينتظر وقتاً آخر يدبر [نفسه فيه] ، لأن ذلك الوقت بيد موقته، فيرى نفسه بمنزلة الميت فى قبره ينتظر ما يفعل به، مستسلم لله منقطع المشيئة والاختيار.

هذا ما يجرى على أحدهم من فعل الله وحكمه وقضائه الكونى، فإذا جاءَ الأَمر جاءت الإِرادة والاختيار [السعى والجد] واستفراغ الفكر وبذل الجهد، فهو قوى حى فعال يشاهد عبودية مولاه فى أَمره، فهو متحرك فيها بظاهره وباطنه قد أَخرج مقدوره من القوة إلى الفعل، وهو مع ذلك مستعين بربه قائم بحوله وقوته ملاحظ لضعفه وعجزه قد تحقق بمعنى: {إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥] ، فهو ناظر بقلبه إِلى مولاه الذى حركه، مستعين به فى أَن يوفقه لما يحبه ويرضاه، عينه فى كل لحظة شاخصة إلى حقه المتوجه عليه لربه ليؤديه فى وقته على أَكمل أحواله، فإِذا وردت عليهم أَقداره التى تصيبهم بغير اختيارهم قابلوها بمقتضاها من العبودية، وهم فيها على مراتب ثلاثة:

إحداها: الرضا عنه فيها والمزيد من حبه والشوق إليه، وهذا نشأَ من مشاهدتهم للطفه فيها وبره وإِحسانه العاجل والآجل، ومن مشاهدتهم حكمته فيها ونصبها سبباً لمصالحهم، وشوقهم بها إلى حبه ورضوانه، ولهم من ذلك مشاهد أُخر لا تسعها العبارة وهى فتح من الله على العبد لا يبلغه علمه ولا عمله.

المرتبة الثانية: شكره عليها كشكره على النعم وهذا فوق الرضا عنه بها ومنه ينتقل إلى هذه المرتبة، فهذه مرتبتان لأَهل هذا الشأْن.

والثالثة: للمقتصدين وهى مرتبة الصبر التى إذا نزل منها نزل إلى نقصان الإيمان وفواته من التسخط والتشكى، واستبطاءِ الفرج، واليأْس من الروح والجزع الذى لا يفيد إلا فوات الأَجر وتضاعف المصيبة.

فالصبر أول منازل الإيمان ودرجاته وأوسطها وآخرها، فإن صاحب الرضا والشكر لا يعدم الصبر فى مرتبته، بل الصبر

<<  <   >  >>