للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

معه وبه يتحقق الرضا والشكر، [و] لا تصور ولا تحقق لهما دونه، وهكذا كل مقام مع الذى فوقه، كالتوكل مع الرضا، وكالخوف والرجاء مع الحب، فإِن المقام لا ينعدم بالترقى إلى الآخر ولو عدم لخلفه ضده، وذلك رجوع إلى نقص الطبيعة وصفات النفس المذمومة، وإِنما يندرج حكمه فى المقام الذى أَعلى منه فيصير الحكم له كما يندرج مقام [المتوكل] فى مقام المحبة والرضا، وليس هذا كمنازل سير الأَبدان الذى إذا قطع منها منزلاً خلفه وراءَ ظهره واستقبل المنزل الآخر معرضاً عن الأَول بارتحاله، بل هذا كمنزلة التاجر الذى كلما باع شيئاً من ماله وربح فيه، ثم باع الثانى وربح فقد ربح بهما معاً، وهكذا أبداً يكون ربحه فى كل صفقة متضاعفاً بانضمامه إلى ما قبله، فالربح الأول اندرج فى الثانى ولم يعدم.

فتأمل هذا الموضع واعطه حقه يزل عنك ما يعرض من الغلط فى علل المقامات وتعلم أَن دعوى المدعى أَنها من منازل العوام ودعوى أنها معلولة غلط من وجهين، أَحدهما: أَن أَعلى المقامات مقرون بأَدناها مصاحب له كما تقدم، متضمن له تضمن الكل لجزئه، أَو مستلزم له استلزام الملزوم للازمه لا ينفك عنه أبداً، ولكن لاندراجه فيه وانطواءِ حكمه تحته يصير المشهد والحكم للعالى.

الوجه الثانى: أن تلك المقامات والمنازل إِنما [تكون فى] منازل العوام وتعرض لها العلل بحسب متعلقاتها وغاياتها، فإِن كان متعلقها وغاياتها بريئاً من شوائب العلل وهو أجلّ متعلق وأَعظمه فلا علة فيها بحال، وهى من منازل الخواص [حينئذ وإن كان متعلقاً خطأً للعبد أو أمراً موشباً بخطه فهى معلولة] من جهة تعلقها بحظه ولنذكر لذلك أمثلة

المثال الأول: الإِرادة، فإن الله جعلها من منازل صفوة عباده، وأَمر رسوله أن يصبر نفسه مع أَهلها فقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: ٢٨] وقال تعالى: {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجزِى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله} [الليل ١٩-٢٠] ، وقال حكاية عن أوليائه قولهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ} [الإنسان: ٩] ، وهى لام التعليل الداخلة على الغايات المرادة، وهى كثيرة فى القرآن، فقالت طائفة: الإرادة حلية العوام، وهى تجريد القصد، وجزم النية، والجد فى الطلب، وذلك

<<  <   >  >>