للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فتأمل ما تحت هذه المعاتبة وما فى طى هذا الخطاب من سوءِ هذا العبد وما تعرض له من المقت والخزى والهوان ومن استعطاف ربه واستعتابه ودعائه إياه إلى العود إلى وليه ومولاه الحق الذى هو أولى به، فإذا عاد إليه وتاب إليه فهو بمثابة من أَسر له العدو محبوباً له، واستولوا عليه وحالوا بينه وبينه، فهرب منهم ذلك المحبوب وجاءَ إلى محبه اختياراً وطوعاً حتى توسد عتبة بابه فخرج المحب من بيته فوجد محبوبه متوسداً عتبة بابه واضعاً خده وذقنه عليها، فكيف يكون فرحه ربه؟ ولله المثل الأعلى.

ويكفى فى هذا المثل الذى ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن فتح الله عين قلبه فأبصر ما فى طيه وما فى ضمنه، وعلم أنه ليس كلام مجاز ولا مبالغة ولا تخييل، بل كلام معصوم فى منطقة وعلمه وقصده وعمله، كل كلمة [منه] فى موضعها ومنزلتها ومقرها لا يتعدى بها عنه ولا يقصر بها.

والذى يزيد هذا المعنى تقريراً أن محبة الرب لعبده سبقت محبة العبد له سبحانه، فإن لولا محبة الله له لما جعل محبته فى قلبه، [فلما أحبه] ألهمه حبه وآثره به فلما أحبه العبد جازاه على تلك المحبة محبة أعظم منها فإنه من تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً، ومن تقرب إليه ذراعاً تقرب إليه باعاً، ومن أتاه مشياً أتاه هرولة.

وهذا دليل على أن محبة الله لعبده الذى يحبه فوق محبة العبد له. [فإذا] تعرض هذا المحبوب لمساخط حبيبه فهو بمنزلة المحبوب الذى فر من محبه وآثر غيره عليه، فإذا عاوده وأقبل إليه وتخلى عن غيره، فكيف لا يفرح به محبه أعظم فرح وأكمله، والشاهد أقوى شاهد تؤيده الفطرة والعقل، فلو لم يخبر الصادق المصدوق بما أخبر به من هذا الأمر العظيم لكان فى الفطرة والعقل ما يشهد به، فإذا انضافت للشريعة المنزلة إلى [الفطرة المكملة إلى العقل الصحيح] المنور، فذلك الذى لا غاية له بعده، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم.

فصل

ومتى أراد العبد شاهِدَ هذا من نفسه فلينظر إلى الفرحة التى يجدها بعد التوبة النصوح، والسرور واللذة التى تحصل له، والجزاءُ من جنس العمل.

فلما تاب إلى الله ففرح الله بتوبته أَعقبه فرحاً عظيماً. وهاهنا دقيقة قل من يتفطن لها إلا فقيه فى هذا الشأْن. وهى أن كل تائب لا بد له فى أول توبته من عصرة وضغطة فى قلبه من هم أَو غم أو ضيق أو حزن، ولو لم يكن إلا تأَلمه بفراق محبوبه فينضغط لذلك وينعصر

<<  <   >  >>