للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لم يصبر لها انقلب على وجهه. والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه.

والمقصود أن هذا الفرح من الله بتوبة عبده- مع أنه لم يأْت نظيره فى غيرها من الطاعات- دليل على عظم قدر التوبة وفضلها عند الله، وأن التعبد له بها من أشرف التعبدات، وهذا يدل على أن صاحبها يعود أكمل مما كان قبلها، فهذا بعض ما احتج به لهذا القول.

وأما الطائفة التى قالت: لا يعود إلى مثل ما كان، بل لا بد أن ينقص حاله، فاحتجوا بأن الجناية توجب الوحشة وزوال المحبة ونقص العبودية بلا ريب.

فليس العبد الموفر أوقاته على طاعة سيده كالعبد المفرط فى حقوقه، وهذا مما لا يمكن جحده ومكابرته، فإذا تاب إلى ربه ورجع إليه أثرت توبته برك مؤاخذته بالذنب والعفو عنه، وأَما مقام القرب والمحبة فهيهات أن يعود.

قالوا: ولأن هذا فى زمن اشتغاله بالمعصية قد فاته فيه السير إلى الله، فلو كان واقفاً فى موضعه لفاته التقدم فكيف وهو فى زمن المعصية كان سيره إلى وراءَ وراء؟ فإذا تاب واستقبل سيره، فإنه [يحتاج إلى سير جديد وقطع مسافة حتى يصل إلى الوضع الذى] تأخر منه. قالوا: ونحن لا ننكر أنه قد يأْتى بطاعات وأعمال تبلغه إلى منزلته [وإنما انكرنا أن يكون بمجرد التوبة النصوح يعود إلى منزلته وحالته] ، وهذا مما لا يكون فإنه بالتوبة قد وجه وجهه إلى الطريق، فلا يصل إلى مكانه الذى رجع منه إلا بسير مستأْنف يوصله إليه، ونحن لا ننكر أن العبد بعد التوبة يعمل أعمالاً عظيمة لم يكن ليعملها قبل الذنب توجب له التقدم.

قالوا: وأيضاً، فلو رجع إلى حاله التى كان عليها أو إلى أرفع منها لكان بمنزلة المداوم على الطاعة أو أحسن حالاً منه، فكيف يكون هذا، وأين مسير صاحب الطاعة فى زمن اشتغال هذا بالمعصية؟ وكيف يلتقى رجلان أحدهما سائر نحو المشرق والآخر نحو المغرب، فإذا رجع أحدهما إلى طريق الآخر والآخر مجدٌ على سيره، فإنه لا يزال سابقه ما لم يعرض له فتور أو توان؟ هذا مما لا يمكن جحده ودفعه.

قالوا: وأيضاً فمرض القلب بالذنوب على مثل مرض الجسم بالأسقام، والتوبة بمنزلة شرب الدواءِ، والمريض إذا شرب الدواءَ وصح فإنه لا تعود إليه قوته قبل المرض، وإنْ عادت فبعد حين.

قالوا: وأيضاً فهذا فى زمن معالجة التوبة ملبوك فى نفسه، مشغول بمداوتها ومعالجتها، وفى زمن الذنب مشغول بشهواتها، والسالم من ذلك مشغول بربه قد قرب منه فى سيره فكيف يلحقه هذا؟ فهذا ونحوه مما احتجت به هذه الطائفة لقولها.

<<  <   >  >>