للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الوجه الثالث أن يقال: قوله: "الزهد تعظيم للدنيا، واحتباس عن الانتفاع بها" إلى آخر الفصل، إن أراد به أن زهده دليل على تعظيم الدنيا وأن لها فى قلبه من بالقدر والمنزلة ما يكره لأجله نفسه على تركها، أو مستلزم لذلك، فإن الزهد لا يدل على هذا التعظيم، ولا يستلزمه - وإن كان من عوارض غلبات الطبع التى تذم مساكنتها وانحجاب القلب بها - بل زهده فيها دليل على خروج عظمها من قلبه [وقلة] مبالاته بها وترك الاهتبال بشأْنها، فكيف يكون هذا نقصاً بوجه؟ بل النقص فى الزهد يكون من أحد وجوه:

أولها: أن يزهد فيما ينفعه منها، ويكون قوة له على سيره ومعونة له على سفره، فهذا نقص. فإن حقيقة الزهد هى أَن تزهد فيما لا ينفعك، والورع أن تتجنب ما قد يضرك. فهذا الفرق بين الأمرين.

الثانى: أن يكون زهده مشوباً إما بنوع عجز أو ملالة وسآمة وتأَذية بها وبأَهلها، وتعب قلبه بشغله بها، ونحو هذا من المزهدات فيها، كما قيل لبعضهم: ما الذى أوجب زهدك فى الدنيا؟ قال: قلة وفائها، وكثرة جفائها، وخسة شركائها. فهذا زهد ناقص، فلو صفت للزاهد [من] تلك العوارض لم يزهد فيها بخلاف من كان زهده فيها لامتلاءِ قلبه من الآخرة، ورغبته فى الله وقربه، فهذا لا نقص فى زهده ولا علة من جهة كونه زهداً.

الثالث: أن يشهد زهده ويلحظه ولا يفنى عنه بما زهد لأجله فهذا نقص أيضاًً فالزهد كله أن تزهد فى رؤية زهدك وتغيب عنه برؤية الفضل ومطالعة المنة، وأن لا تقف عنده فتنقطع، بل أعرض عنه جاداً فى سيرك غير ملتفت إليه مستصغراً لحاله بالنسبة إلى مطلوبك، مع أن هذه العلة مطردة فى جميع المقامات على ما فيها كما سننبه عليه إن شاء الله، فإن ربط هذا الشأْن بالنصوص النبوية والعقل الصريح والفطرة الكاملة من أهم الأمور فلا يحسن بالناصح لنفسه أن يقنع فيه بمجرد تقليد أهله، فما أكثر غلطهم [فيهم] وتحكيمهم مجرد الذوق، وجعل حكم ذلك الذوق كلياً عاماً، فهذا ونحوه من مثارات الغلط.

الوجه الرابع: أن الزهد على أربعة أقسام:

أحدها: فرض على كل مسلم وهو

<<  <   >  >>