للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

التَرك مستصحب معه، والمتروك لا ينحصر ولا ينضبط، فهل يثاب على ذلك كله؟ هذا مما لا يتوهم.

وإذا كانت الحسنة لا بد أن تكون أمراً وجودياً فالتائب من الذنوب التى عملها قد قارن كلَّ ذنب منها ندماً عليه، وكف نفسه عنه، وعزم على ترك معاودته. وهذه حسنات بلا ريب، وقد محت التوبة أثر الذنب وخلفه هذا الندم والعزم، وهو حسنة قد بدلت تلك السيئة حسنة.

وهذا معنى قول بعض المفسرين: يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة. فإذا كانت كل سيئة من سيئاته قد تاب منها فتوبته منها حسنة حلت مكانها، فهذا معنى التبديل، لا أن السيئة نفسها تنقلب حسنة.

وقال بعض المفسرين فى هذه الآية: يعطيهم بالندم على كل سيئة أساؤوها حسنة، وعلى هذا فقد زال بحمد الله الإشكال، واتضح الصواب، وظهر أن كل واحدة من الطائفتين ما خرجت عن موجب العلم والحجة.

وأما حديث أبى ذر - وإن كان التبديل فيه فى حق المصرّ الذى عذب على سيئاته - فهو يدل بطريق الأولى على حصول التبديل للتائب المقلع النادم على سيئاته، فإن الذنوب التى عذب عليها المصر لما زال أثرها بالعقوبة بقيت كأن لم تكن، فأعطاه الله مكان كل سيئة منها حسنة، لأن ما حصل له يوم القيامة من الندم المفرط عليها مع العقوبة [لاقتضى] زوال أثرها وتبديلها حسنات، فإن الندم لم يكن فى وقت ينفعه، فلما عوقب عليها وزال أثرها بدلها الله له حسنات.

فزوال أثرها بالتوبة النصوح أعظم من زوال أثرها بالعقوبة، فإذا بدلت بعد زوالها بالعقوبة حسنات فلأن تبدل بعد زوالها بالتوبة حسنات أولى وأحرى. وتأثير التوبة فى هذا المحو والتبديل أقوى من تأْثير العقوبة لأن التوبة فعل اختيارى أَتى به العبد طوعاً ومحبة لله وفرقاً منه.

وأما العقوبة فالتكفير بها من جنس التكفير بالمصائب التى تصيبه بغير اختياره بل بفعل الله، ولا ريب أن تأْثير الأفعال الاختيارية التى يحبها الله ويرضاها فى محو الذنوب أعظم من تأْثير المصائب التى تناله بغير اختياره.

ولنرجع الآن إلى المقصود وهو [الكلام على] ما ذكره أبو العباس بن الصائف فى علل المقامات، فقد ذكرنا كلامه فى علة مقام الإرادة، [والكلام عليه وذكرنا كلامه فى مقام الزهد وقوله أنه من مقامات العامة] وذكرنا أن الكلام على ذلك من وجوه هذا آخر الوجه الثانى منها.

<<  <   >  >>