حب الدنيا وذكرها وإيثارها والعمل بها. والقول الثانى: إنا أخلصناهم بأفضل ما في الدار الآخرة واختصصناهم به عن العالمين.
قوله: وتوكلهم رضاهم بتدبير الحق، وتخلصهم من تدبيرهم، وفراغ [همهم] من احتيالها في إصلاح شئونها، بوقوفهم على فراغ المدبر منها، ومرها على علمه بمصالحهم فيها، ونفوسهم مطمئنة بذلك:{يَأَيتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ}[الفجر: ٢٧] الآية.
وقد تقدم الكلام على التوكل وبيان أنه من مقامات العارفين، وأنه لا انفكاك للمؤمن منه، وذكر العلة فيه ما هى. وقوله:"وتوكلهم رضاهم بتدبير الحق" الرضا بالتدبير ثمرة التوكل وموجبه لا أنه نفس التوكل والمقدور، يكشفه أمران: التوكل قبل وقوعه، والرضا به بعد وقوعه.
ومن هنا قال بعضهم: حقيقة التوكل الرضا لأنه لما كان ثمرته وموجبه استدل له عليه استدلالاً بالأثر على المؤثر وبالمعلول على العلة، ولهذا قال فى الحديث الذى رواه الإمام أحمد والنسائى: وغيرهما عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال فى دعائه: "اللهم إنى أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيراً لى، وتوفنى إذا كانت الوفاة خيراً لي، اللهم وأسألك خشيتك فى الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق فى الغضب والرضا، وأسألك القصد فى الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاءِ، وأسألك برد العيش بعد الموت" الحديث. وقد تقدم، فقال:"وأسألك الرضا بعد القضاء".
وأما التوكل فإنما يكون قبله، وقوله:"وتخلصهم من تدبيرهم" هذا مقام كثيراً ما يشير إليه السالكون، وهو ترك التدبير، وينبغى أن لا يؤخذ على إطلاقه بل لا بد فيه من التفصيل فيقال: العبد دائر بين مأمور يفعله، ومحظور يتركه. وقد يجري عليه بلا إرادة منها ولا كسب فوظيفته فى المأْمور كمال التدبير والجد والتشمير، وأن يدبر الحيلة فى [تنفيذه] بكل ما يمكنه، فترك التدبير هنا تعطيل للأمر. بل يدبر فعله ناظراً إلى تدبير الحق له، وأن تدبيره إنما يتم بتدبير الله له، فلا يكون هنا قدرياً مجوسياً ناظراً إلى فعله جاحداً لتدبير الله وتقديره ومعونته، ولا قدرياً مجبراً ولا واقفاً مع القدر جاحداً لفعله وتدبيره ومجلي أمر الله ونهيه.
فإن فعله الاختيارى هو محل الأمر والنهى، فمن جحد فعل نفسه فقد عطل الأمر والنهي وجحد محلهما، ووظيفته فى المحظور الفناءُ عن إرادته وفعله،