للقدر لا واقفاً مع القدر" اهـ، فإِن ضاق ذرعك عن هذا الكلام وفهمه فتأمل قول عمر ابن الخطاب- وقد عوتب على فراره من الطاعون فقيل له-: "أتفر من قدر الله؟ فقال: نفر من قدر الله إِلى قدره"، ثم كيف ينكر هذا الكلام من لا بقاءَ له فى هذا العالم إِلا به، ولا تتم له مصلحة إِلا بموجبه، فإِنه إذا جاءَه قدر من الجوع والعطش أَو البرد نازعه وترك الانقياد له ومسالمته، ودفع بقدر آخر من الأَكل والشرب واللباس، فقد دفع قدر الله بقدره، وهكذا إِذا وقع الحريق فى داره فهو بقدر الله، فما باله لا يستسلم له ويسالمه ويتلقاه بالإِذعان؟ بل ينازعه ويدافعه بالماءِ والتراب وغيره حتى يطفيء قدر الله بقدر الله وما خرج فى ذلك عن قدر الله، وهكذا إِذا أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر ونازعه بقدر آخر يستعمل فيه الأَدوية الدافعة للمرض فحق هذا الحكم الكونى أَن يحرص العبد على مدافعته ومنازعته بكل ما يمكنه، فإِن غلبه وقهره، حرص على دفع آثاره وموجباته بالأَسباب التى نصبها الله لذلك، فيكون قد دفع القدر بالقدر ونازع الحكم بالحكم، وبهذا أُمر، بل هذا حقيقة الشرع والقدر، ومن لم يستبصر فى هذه المسأَلة ويعطها حقها لزمه التعطيل للقدر أَو الشرع شاءَ أَو أَبى، فما للعبد ينازع أَقدار الرب [تعالى] بأَقداره فى حظوظه وأَسباب معاشه ومصالحه الدنيوية ولا ينازع أَقداره فى حق مولاه وأَوامره ودينه؟ وهل هذا إِلا خروج عن العبودية ونقص فى العلم بالله وصفاته وأَحكامه؟ ولو أَن عدواً للإِسلام قصده لكان هذا بقدر الله، ويجب على كل مسلم دفع هذا القدر بقدر يحبه الله وهو الجهاد باليد أو المال أو القلب دفعا لقدر الله بقدره فما للاستلام والمسالمة هنا مدخل فى العبودية، اللهم إلا إذا بذل العبد جهده فى المدافعة والمنازلة وخرج الأمر عن يده.
فحينئذ يبقى من أهل الحكم الثالث وهو الحكم القدري الكوني الذي يجري على العبد بغير اختياره ولا طاقة له بدفعه ولا حيلة له في منازعته، فهذا حقه أن يتلقى بالاستسلام والمسالمة وترك المخاصمة وأن يكون فيه كالميت بين يدي الغاسل، وكمن انكسر به المركب في لجة البحر وعجز عن السباحة وعن سبب يدنيه من النجاة فههنا يحسن الاستسلام والمسالمة، مع أن عليه في هذا الحكم عبوديات أخر سوى التسليم والمسالمة، وهي أن يشهد عزة الحاكم في حكمه، وعدله في قضائه، وحمكته في جريانه عليه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما