مباديء الغنى بالحقيقة، لأَن العبد إِذا فتح الله لقلبه شهود أَوليته سبحانه حيث كان ولا شيء غيره، وهو الإِلَه الحق الكامل فى أَسمائه وصفاته، الغنى عما سواه، الحميد المجيدُ بذاته قبل أَن يخلق من يحمده ويعبده ويمجده، فهو معبود محمود حى قيوم له الملك وله الحمد فى الأَزل والأَبد، لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الجلال، منعوتاً بنعوت الكمال، وكل شيء سواه فإِنما كان به، وهو تعالى بنفسه ليس بغيره فهو القيوم الذى قيام كل شيء به، ولا حاجة به فى قيوميته إِلى غيره بوجه من الوجوه.
فإِذا شهد العبد سبقه تعالى بالأولية ودوام وجوده الحق وغاب بهذا عما سواه من المحدثات فنى فى وجوده من لم يكن [كأنه لم يكن] وبقى من لم يزل، واضمحلت الممكنات فى وجوده الأَزلى الدائم بحيث صارت كالظلال التى يبسطها ويمدها ويقبضها، فيستغنى العبد بهذا المشهد العظيم ويتغذى [بها] عن فاقاته وحاجاته. وإِنما كان هذا عندهم أَفضل مما قبله لأَن الشهود الذى قبله فيه شائبة مشيرة إِلى وجود العبد، وهذا الشهود الثانى سائر الموجودات كلها سوى الأَول تعالى قد اضمحلت وفنيت فيه، وصارت كأوليتها وهو العدم، فأَفنتها أَولية الحق [تبارك وتعالى] ، فبقى العبد محواً صرفاً وعدماً محضاً، وإِن كانت انيته مشخصة مشاراً إِليها لكنها لما نسبت إِلى أَولية الحق عَزَّ وجَلَّ اضمحلت وفنيت وبقى الواحد الحق الذى لم يزل باقياً، فاضمحل ما دون الحق تعالى فى شهود العبد كما هو مضمحل فى نفسه، وشهد العبد حينئذ أَن كل شيء ما سواى [الله] باطل، وأَن الحق المبين هو الله وحده، ولا ريب أَن الغنى بهذا الشهود [دائم] من الغنى بالذى قبله، وليس هذا مختصاً بشهود أَوليته تعالى فقط بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الرب [جل جلاله] يستغنى العبد بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها.
فمن شهد مشهد علو الله على خلقه وفوقيته لعباده واستوائه على عرشه كما أَخبر به أَعرف الخلق وأَعلمهم به الصادق المصدوق وتعبد بمقتضى هذه الصفة بحيث يصير لقلبه صمد يعرج القلب إِليه مناجياً له مطرقاً واقفاً بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدى الملك العزيز. فيشعر بأن كلمه وعمله صاعد إِليه معروض عليه مع أَوفى خاصته وأَوليائه، فيستحى أَن يصعد إِليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك، ويشهد نزول الأَمر والمراسيم الإِلهية إِلى أَقطار العوالم كل وقت بأَنواع التدبير والمصرف- من الإِماتة والإِحياءِ والتولية والعزل والخفض والرفع والعطاءِ