فيهما مشايخ الطريق العارفون وعليهما أَهل السُّنَّة والجماعة، وهما من فطرة الله التى فطر الناس عليها، ويحتجون على من ينكرهما بالنصوص والآثار تارة وبالذوق والوجد وبالفطرة تارة وبالقياس والأَمثال تارة. وقد ذكرنا مجموع هذه الطرق فى كتابنا الكبير فى المحبة الذى سميناه "المورد الصافى، والظل الضافى" فى المحبة وأَقسامها وأَنواعها وأَحكامها وبيان تعلقها بالإله الحق دون ما سواه، وذكرنا من ذلك ما يزيد على مائة وجه. ومما يوضح ذلك ويزيده تقريراً أَن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا بضر ولا عطاء ولا منع بل ربه سبحانه الذى خلقه ورزقه وبصره وهداه وأَسبغ عليه نعمة وتحبب إليه بها مع غناه عنه ومع تبغض العبد إِليه بالمعاصى مع فقره إِليه، فإِذا مسه الله بضر فلا كاشف له إِلا هو، وإِذا أَصابه بنعمه فلا رادَّ لها ولا مانع كما قال تعالى:{وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ}[يونس: ١٠٧] ، و {مّا يَفْتَحِ اللهُ لِلنّاسِ مِن رّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[فاطر: ٢] ، فالعبد لا ينفع ولا يضر ولا يعطى ولا يمنع إِلا بإِذن الله، فالأَمر كله لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، هو مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاءُ، المتفرد بالضر والنفع والعطاءِ والمنع والخفض والرفع، ما من دابة إِلا هو آخذ بناصيتها، أَلا له الخلق والأَمر تبارك الله رب العالمين، وهذا الوجه أَعظم لعموم الناس من الوجه الأَول، ولهذا خوطبوا به فى القرآن أَكثر من الأَول، لكن من تدبر طريقة القرآن تبين له أَن الله سبحانه يدعو عباده بهذا الوجه إِلى لأول، فهذا الوجه يقتضى التوكل على الله والاستعانة به والدعاءَ له ومسألته دون ما سواه، ويقتضى أيضاً محبته وعبادته لإِحسانه إِلى عبده وإِسباغ نعمه عليه، فإِذا عبده وأَحبه وتوكل عليه من هذا الوجه دخل فى الوجه الأَول. وهكذا كمن نزل به بلاءٌ عظيم وفاقة شديدة أَو خوف مقلق فجعل يدعو الله ويتضرع إِليه حتى فتح له من لذيذ مناجاته له باب الإِيمان به والإِنابة إِليه وما هو أَحب إِليه من تلك الحاجة التى قصدها أولا لكنه لم يكن يعرف ذلك أَولا حتى يطلبه ويشتاق إِليه فعرفه إِياه بما أَقامه له من الأَسباب التى أَوصلته إِليه. والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إِلى الله دون ما سواه ومن ذكر