من العام إلى العام فهذا التقدير أخص من التقدير الثانى، والثانى أخص من الأول ونظير هذا أيضاً أن الله [سبحانه] قدر مقادير الخلائق قبل أَن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم قدر مقادير هذا الخلق حين خلقهم وأوجدهم ثم يقدر كل سنة فى ليلة القدر ما يكون فى ذلك العام. وهكذا تقدير أمر النطفة وشأنها يقع بعد تعلقها بالرحم، وبعد كمال تصوير الجنين، وقد تقدم ذكر تقدير شأْنها قبل خلق السموات والأرض فَهو تقدير بعد تقدير. ونظير هذا أيضاً رفع الأعمال وعرضها على الله فإن عمل العام يرفع فى شعبان كما أخبر به الصادق المصدوق أنه شهر ترفع فيه الأعمال، قال:"فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِى وَأَنَا صَائِمٌ"، ويعرض عمل الأُسبوع يوم الاثنين والخميس كما ثبت ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم، ويعرض عمل اليوم فى آخره والليلة فى آخرها كما فى حديث أبى موسى الذى رواه البخارى عن النبى صلى الله عليه وسلم:"أن الله لا ينام ولا ينبغى له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل"، فهذا الرفع والعرض اليومى أخص من العرض يوم الاثنين والخميس، والعرض فيها أخص من العرض فى شعبان، ثم إذا انقضى الأجل رفع العمل كله وعرض على الله وطويت الصحف، وهذا عرض آخر. وهذه المسائل العظيمة القدر من أَهم فإن قيل: ما تقولون فى قوله: "إِذَا مَرّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَة بَعَثَ اللهُ إِلَيْهَا مَلَكاً فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعَظْمَهَا ثُمَّ قَالَ: يَا رَب أَذكر أَم أُنثى؟ فيقضى ربك ما شاءَ ويكتب الملك. ثم يقول: يا رب أَجله؟ فيقول ربك ما شاءَ ويكتب الملك"، وهذه بعض أَلفاظ مسلم فى الحديث، وهذا يوافق الرواية الأُخرى:"يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر فى الرحم بأَربعين أَو خمس وأَربعين ليلة فيقول: يا رب أشقى [أم] سعيد؟ "
ويوافق مسائل الإيمان بالقدر، فصلوات الله وسلامه على كاشف الغمة وهادى الأُمة محمد صلى الله عليه وسلم.
الرواية الأُخرى: "إن النطفة تقع فى الرحم أربعين ليلة ثم يتسور عليها الملك، وهذا يدل على أن تصويرها عقيب الأربعين الأُولى. قيل: لا ريب أن التصوير المحسوس وخلق الجلد والعظم واللحم إنما يقع فى الأَربعين الثالثة، لا يقع عقيب الأُولى، هذا أمر معلوم بالضرورة، فأما أن يكون المراد بالأَربعين فى هذه الألفاظ الأربعين الثالثة وسمى المضغة فيها نطفة اعتباراً