فقصده الخلائق من الأقطار ثم إنه لما فتح الملك الناصر صلاح الدين يوسف بيت المقدس توجه فزاره سنة تسع وثمانين وخمسمائة ثم رجع فأقام بالمدرسة الفاضلية يقرئ حتى توفي١، وكان إمامًا كبيرًا أعجوبة في الذكاء كثير الفنون آية من آيات الله تعالى غاية في القراءات حافظًا للحديث بصيرًا بالعربية إمامًا في اللغة رأسًا في الأدب مع الزهد والولاية والعبادة والانقطاع والكشف, شافعي المذهب مواظبًا على السنة, بلغنا أنه ولد أعمى, ولقد حكى عنه أصحابه ومن كان يجتمع به عجائب وعظموه تعظيمًا بالغًا حتى أنشد الإمام الحافظ أبو شامة المقدسي -رحمه الله- من نظمه في ذلك:
رأيت جماعة فضلاء فازوا ... برؤية شيخ مصر الشاطبي
وكلهم يعظمه ويثني ... كتعظيم الصحابة للنبي
أخبرني بعض شيوخنا الثقات عن شيوخهم أن الشاطبي كان يصلي الصبح بغلس بالفاضلية ثم يجلس للإقراء, فكان الناس يتسابقون السير إليه ليلًا وكان إذا قعد لا يزيد على قوله: من جاء أولًا فليقرأ ثم يأخذ على الأسبق فالأسبق, فاتفق في بعض الأيام أن بعض أصحابه سبق أولًا, فلما استوى الشيخ قاعدًا قال: من جاء ثانيًا فليقرأ فشرع الثاني في القراءة وبقي الأول لا يدري حاله وأخذ يتفكر ما وقع منه بعد مفارقة الشيخ من ذنب أوجب حرمان الشيخ له, ففطن أنه أجنب تلك الليلة ولشدة حرصه على النوبة نسي ذلك لما انتبه فبادر إلى الشيخ, فأطلع الشيخ على ذلك, فأشار للثاني بالقراءة ثم إن ذلك الرجل بادر إلى حمام جوار المدرسة فاغتسل به ثم رجع قبل فراغ الثاني والشيخ قاعد أعمى على حاله, فلما فرغ الثاني قال الشيخ: من جاء أولًا فليقرأ
١ في ع هنا حاشية نصها: "وكان يعتل بالعلل الشديدة فلا يشتكي ولا يتأوه, وإذا سئل عن حاله قال: العافية, لا يزيد على ذلك, ولعله كان يفعل ذلك لما ذكره بعض العلماء أن كثرة الشكوى تدل على ضعف اليقين وتشعر بالسخط لقضاء رب العالمين مع ما فيه من شماتة الأعداء والحايدين" ولعل صواب الكلمة الأخيرة "والحاقدين".