للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثم شاع بعد القرن الخامس ذاك في الناس وكثر، فعَمَّ وطَمَّ وقَلَّ أن سَلِمَ منه بلدٌ، وفي كل قرن يعيش أولياء، وكل من مات قُبَّبَ على قبره، واتُّخِذَ مزاراً، يستشفعُ به، ويسأل ويدعى.

فكثرت القبورُ، وكثرت العطايا للقبور، فكثر السدنةُ والمنتفعون، والمالُ فِتْنَةٌ، والجاهُ فِتْنَةٌ، والسيادةُ فِتْنَةٌ.

وأحبَّ من لم يتبع التوحيد أن يعظمَه الناسُ في حياته، فمن مُقَبِّلٍ للأيدي والأرجل، ومن متمسحٍ بالثياب خاضعٍ بالقول، والقلب والجوارح.

وقد رأيت مرة رجلاً يُظَنُّ عالماً في المطافِ حول البيت العتيق، وهو يدورُ مقهقهاً مع رفيقٍ له، ومن الناس من تمسَّح به وقَبَّلَ يده! أي حالٍ تلك؟! وأي قلوبٍ هاتيك القلوبُ التي تقهقه حول الكعبةِ المشرفة، ثم هم أولياءُ في زعمهم؟!

ووصفُ أحوال المنتسبين للإسلام اليوم يطولُ، ولكنَّ الإيماءَ كافٍ، فالإطالةُ تضني، وقد جادلت يوماً ببلدٍ إفريقيِّ أحدَ المفتونين من كبار العلماءِ المُحَبَّذين لعبادة القبور والسدنةِ حولها، في حالهم، ومعنى العبادة، ومفهوم الشهادتين، فقال: أنا أعلم أنكم على الحق؛ ولكن (سيب) الناس تعيش!

إن هذا هو الواقعُ، فالمسألةُ ليست نصرةً للحقِّ بدلائله، ولكنها سيادةٌ وجاهٌ وسمعةٌ وأموالٌ، ثم يبحث لتثبيتِ هذا المقررِ سَلَفاً في الدلائل الشرعيةِ، وإنْ كانت أحاديثَ مكذوبة، وفي الدلائل العقلية، وإن كانت أوهى من خيوط العناكب.

وإن المحافظةَ على المجد والسيادة مما يحرص عليها ناصروا المذاهب البدعية، يورثونها أولادهم لحبهم أن يدعوا الورثة أغنياء! وإذا هلك صُيَّر مدفنه ضريحاً إن استطيع، وتُوَجَّه قلوبُ الناس إليه، فيزداد الخليفةُ جاهاً وطاعةً ومالاً.

<<  <   >  >>