لَا يَزِنِّي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ إِلَخْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ التَّوْبَةِ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ - فَإِنَّ الْقَتْلَ أَكْبَرُ إِثْمًا وَأَشَدُّ جُرْمًا مِنَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْحَدِيثُ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ مَا قَالَهُ شَيْخُنَا مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ لِفَاعِلِهِ شُبْهَةُ عُذْرٍ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا سَلَّمْنَا ذَلِكَ وَحَكَمْنَا بِأَنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ قَدْ صَارَتْ بِالْقَتْلِ شَرَّ النُّفُوسِ وَأَشَدَّهَا رِجْسًا، وَأَبْعَدَهَا عَنْ مُوجِبَاتِ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا فِي
الْآيَةِ مِنَ اللَّعْنَةِ، فَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكُمَ بِأَنَّ صَلَاحَهَا بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مُتَعَذِّرٌ وَلَا مُتَعَسِّرٌ.
أَمَّا شُبْهَةُ الْعُذْرِ أَوْ شَبَهُهُ فَقَدْ يَظْهَرُ فِيمَنْ كَانَ شَدِيدَ الْغَضَبِ حَدِيدَ الْمِزَاجِ، إِذَا رَأَى مِنْ خَصْمِهِ مَا يُثِيرُ غَضَبَهُ وَيُنْسِيهِ رَبَّهُ، فَقَدْ يَنْدَفِعُ إِلَى الْقَتْلِ لَا يَمْلِكُ فِيهِ نَفْسَهُ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا الْقَتْلَ لَا يُعَدُّ مِنَ الْعَمْدِ أَوِ التَّعَمُّدِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْعَمْدِ لِمَا فِي صِيغَةِ التَّفَعُّلِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى التَّرَبُّصِ أَوِ التَّرَوِّي فِي الشَّيْءِ، وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الضَّرْبَ بِمَا لَا يَقْتُلُ فِي الْغَالِبِ إِذَا أَفْضَى إِلَى الْقَتْلِ لَا يُسَمَّى عَمْدًا بَلْ شِبْهَ عَمْدٍ كَالضَّرْبِ بِالْعَصَا، وَإِنَّمَا الْعَمْدُ مَا كَانَ بِمُحَدَّدٍ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا جَرَتِ الْعَادَةُ بِكَوْنِهِ بِقَتْلٍ كَبُنْدُقِ الرَّصَاصِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِآلَاتِهِ الْجَدِيدَةِ كَالْبُنْدُقِيَّةِ وَالْمُسَدَّسِ، وَاشْتَرَطُوا فِيهِ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْقَتْلَ فَإِنَّهُ قَدْ يُطْلِقُ الرَّصَاصَ عَلَيْهِ بِقَصْدِ الْإِرْهَابِ وَهُوَ يَنْوِي أَلَّا يُصِيبَهُ فَيُصِيبُهُ بِدُونَ قَصْدٍ، وَلَفْظُ التَّعَمُّدِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا وَعَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ كَمَا قُلْنَا آنِفًا.
وَأَمَّا كَوْنُ الْقَاتِلِ قَدْ تَصْلُحُ نَفْسُهُ وَتَتَزَكَّى بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ فَهُوَ مَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ وَوَاقِعٌ وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا وَرَدَ فِي التَّوْبَةِ، وَلَا نَعْرِفُ نَفْسًا غَيْرَ قَابِلَةٍ لِلصَّلَاحِ، إِلَّا نَفْسَ مَنْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ وَرَانَ عَلَى قَلْبِهِ مَا كَانَ يَكْسِبُ مِنَ الْأَوْزَارِ، بِطُولِ الْمُمَارَسَةِ وَالتَّكْرَارِ، إِذْ يَأْلَفُ بِذَلِكَ الشَّرِّ وَيَأْنَسُ بِهِ حَتَّى لَا تَتَوَجَّهَ نَفْسُهُ إِلَى حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ بِكَرَاهَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَمَقْتِهِ وَالرُّجُوعِ عَنْهُ، لَا أَنَّهُ يَتُوبُ وَلَا يَقْبَلُ اللهُ تَوْبَتَهُ.
فَمَنْ وَقَعَتْ مِنْهُ جَرِيمَةُ الْقَتْلِ فَأَدْرَكَ عَقِبَهَا أَنَّهُ تَعَرَّضَ بِذَلِكَ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَاسْتَحَقَّ لَعْنَةَ اللهِ - تَعَالَى - وَالطَّرْدَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَبَاءَ بِغَضَبِهِ، وَتَهَوَّكَ فِي عَذَابِهِ الْعَظِيمِ، فَعَظُمَ عَلَيْهِ ذَنْبُهُ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ، فَنَدِمَ أَشُدَّ النَّدَمِ فَأَنَابَ وَاسْتَغْفَرَ، وَعَزَمَ عَلَى أَلَّا يَعُودَ إِلَى هَذَا الْحِنْثِ الْعَظِيمِ، وَلَا إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْأَوْزَارِ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْمُكَفِّرَاتِ، وَوَاظَبَ عَلَى الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ إِلَى أَنْ أَدْرَكَهُ الْمَمَاتُ، وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَهُوَ وَلَا شَكَّ فِي مَحَلِّ الرَّجَاءِ، وَحَاشَ لِلَّهِ أَنْ يُخَلِّدَ مِثْلَهُ فِي النَّارِ.
نَعَمْ إِنَّ أُمَرَاءَ الْجَوْرِ الَّذِينَ يَسْفِكُونَ دِمَاءَ مَنْ يُخَالِفُونَ أَهْوَاءَهُمْ، وَزُعَمَاءَ السِّيَاسَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مِنْ قَوَانِينِ جَمْعِيَّاتِهِمُ اغْتِيَالَ مَنْ يُعَارِضُهُمْ فِي سِيَاسَتِهِمْ، وَكُبَرَاءَ اللُّصُوصِ
الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْمُؤْمِنَ وَغَيْرَ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ الْحَقِّ لِأَجْلِ التَّمَتُّعِ بِمَالِهِ، كُلَّ أُولَئِكَ الْفُجَّارِ، الَّذِينَ يَقْتُلُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute