للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بِالْإِنْفَاقِ. وَالْأَرْجَحُ أَنَّ الْمُضَاعَفَةَ عَامَّةٌ وَأَنَّ الْجُمْلَةَ عَلَى إِطْلَاقِهَا فَتَتَنَاوَلُ مَا زَادَ عَلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَمَا نَقَصَ عَنْهُ، وَهِيَ تُشِيرُ إِلَى تَفَاوُتِ الْمُنْفِقِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فِي الصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ كَالْإِخْلَاصِ فِي النِّيَّةِ، وَالِاحْتِسَابِ وَالْأَرْيَحِيَّةِ وَفِيمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الْعَمَلِ كَالْإِخْفَاءِ سِتْرًا عَلَى الْمُعْطِي وَتَبَاعُدًا مِنَ الشُّهْرَةِ، وَالْإِبْدَاءِ لِأَجْلِ حُسْنِ الْقُدْوَةِ، وَتَحَرِّي الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ، وَفِي الْأَحْوَالِ الْمَالِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ كَالْغِنَى وَالْفَقْرِ وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَفِيمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَعْمَالِ كَالرِّيَاءِ وَحُبِّ الشُّهْرَةِ الْبَاطِلَةِ وَالْمَنِّ وَالْأَذَى، فَالْعِشْرَةُ مَبْذُولَةٌ

لِكُلِّ مَنْ أَتَى بِالْحَسَنَةِ، وَالْمُضَاعَفَةُ فَوْقَهَا تَخْتَلِفُ بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ مِنِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمُحْسِنِينَ، فَقَدْ بَذَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كُلَّ مَا يَمْلِكُ فِي سَبِيلِ اللهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَبَذَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ نِصْفَ مَا يَمْلِكُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ النِّسْبَةَ بَيْنَهُمَا كَالنِّسْبَةِ بَيْنَ عَطَاءَيْهِمَا. وَالدِّرْهَمُ مِنَ الْمِسْكِينِ وَالْفَقِيرِ أَعْظَمُ مِنْ دِينَارِ الْغَنِيِّ ذِي الْمَالِ الْكَثِيرِ، وَمَنْ يَبْذُلُ الدِّرْهَمَ مُتَعَلِّقَةً بِهِ نَفْسُهُ حَزِينَةً عَلَى فَقْدِهِ لَيْسَ كَمَنْ يَبْذُلُهُ طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ مَسْرُورَةً بِالتَّوْفِيقِ لِإِيثَارِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ بِهِ عَلَى مَتَاعِ الدُّنْيَا (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى) (٥٧: ١٠) وَتَفْصِيلُ التَّفَاوُتِ فِيمَا ذَكَرْنَا يَطُولُ، وَفِيمَا أَوْرَدْنَاهُ مَا يُرْشِدُ إِلَى غَيْرِهِ لِمَنْ تَفَكَّرَ وَتَدَبَّرَ، وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا مَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ ذِكْرَ الْعَشَرَةِ أَمْثَالٍ يُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ لَا التَّحْدِيدُ لِيَتَّفِقَ مَعَ الْمُضَاعَفَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مَا يُؤَيِّدُ مَا اخْتَرْنَاهُ وَسَنَذْكُرُ بَعْضَهَا.

(وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) أَيْ وَمَنْ جَاءَ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالصِّفَةِ السَّيِّئَةِ الَّتِي يَطْبَعُهَا فِي نَفْسِهِ الْكُفْرُ وَارْتِكَابُ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، فَلَا يُجْزَى إِلَّا عُقُوبَةَ سَيِّئَةٍ مِثْلِهَا. بِحَسَبِ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي تَأْثِيرِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ فِي تَدْسِيَةِ النَّفْسِ وَإِفْسَادِهَا وَتَقْدِيرِهِ الْجَزَاءَ عَلَيْهَا بِالْعَدْلِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: الصِّفَةُ الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ وَلَمْ نَقُلِ الْفِعْلَةُ، لِأَنَّ الْأَفْعَالَ أَعْرَاضٌ تَزُولُ وَتَبْقَى آثَارُهَا فِي النَّفْسِ، فَالْجَزَاءُ عَلَيْهَا يَكُونُ بِحَسَبِ تَأْثِيرِهَا فِي النَّفْسِ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ وَصْفًا لَهَا لَا يُفَارِقُهَا بِالْمَوْتِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) (١٣٩) فَيُرَاجَعُ تَفْسِيرَهُ السَّابِقَ فِي هَذَا الْجُزْءِ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فِي أَهْلِ السَّيِّئَاتِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُحْتَاجُ إِلَى نَفْيِ وُقُوعِ الظُّلْمِ عَلَيْهِمْ، وَلَا سِيَّمَا أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ مِنْهُمْ، مَعَ مَا وَرَدَ مِنَ الشِّدَّةِ فِي وَصْفِ عَذَابِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَظْلِمُهُمْ بِالْجَزَاءِ فَإِنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلْمِ عَقْلًا وَنَقْلًا، وَالْآيَاتُ فِيهِ كَثِيرَهٌ، وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ: " يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>