اجتمعت الأمة على صحة صلاة الكل علمنا أنّ إصابة عينها على البعيد غير واجبة {لَا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا}[البقرة: ٢٨٦] .
ومن جهة أخرى: فإن الناس من عهد النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بنوا المساجد، ولم يحضروا مهندساً عند تسوية المحراب، ومقابلةُ العين لا تُدرك إلا بدقيق نظر الهندسة، ولم يقل أحد من العلماء إنّ تعلم الدلائل الهندسية واجب، فعلمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب.
الترجيح: هذه خلاصة أدلة الفريقين سقناها لك، وأنت إذا أمعنت النظر رأيت أن أدلة الفريق الثاني (المالكية والأحناف) أقوى برهاناً، وأنصع بياناً، لا سيما للبعيد الذي في أقاصي الدنيا، وأصول الشريعة السمحة تأبى التكليف بما لا يطاق، وكأنّ الفريق الأول حين أحسوا صعوبة مذهبهم، خصوصاً من غير المشاهد لها قالوا:«إن فرض المشاهد للكعبة إصابةُ عينها حسّاً، وفرض الغائب عنها إصابة عينها قصداً» وبعد هذا يكاد يكون الخلاف بين الفريقين شكلياً، لأنهم صرحوا بأنّ غير المشاهد لها يكفي أن يعتقد أنه متوجه إلى عين الكعبة، بحيث لو أزيلت الحواجز يرى أنه متوجه في صلاته إلى عينها، وفي هذا الرأي جنوح إلى الاعتدال، والله الهادي إلى سواء السبيل.
قال العلامة القرطبي: في تفسيره «الجامع لأحكام القرآن» ما نصّه:
«واختلفوا هل فرض الغائب استقبال العين، أو الجهة، فمنهم من قال بالأول، قال ابن العربي: وهو ضعيف لأنه تكليف لما لا يصل إليه، ومنهم من قال بالجهة وهو الصحيح لثلاثة أوجه:
الأول: أنه الممكن الذي يرتبط به التكليف.
الثاني: أنه المأمور به في القرآن لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} .