قال الإمام الفخر:(وقد ذكروا في تعيين القبلة في الصلاة حِكماً:
أحدها: أن العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم، فإنه لا بدّ أن يستقبله بوجهه، وألا يكون معرضاً عنه، وأن يبالغ في الثناء عليه بلسانه، ويبالغ في الخدمة والتضرع له، فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقلاً للملك لا معرضاً عنه، والقراءة والتسبيحات تجري مجرى الثناء عليه، والركوع والسجود يجري مجرى الخدمة.
وثانيها: أن المقصود من الصلاة حضور القلب، وهذا الحضور لا يحصل إلا مع السكون وترك الإلتفات والحركة، وهذا لا يتأتى إلا إذا بقي في جميع صلاته مستقبلاً لجهة واحدة على التعيين، فإذا اختص بعض الجهات بمزيد شرف كان استقبال تلك الجهة أولى.
وثالثها: أن الله تعالى يحب الألفة بين المؤمنين، وقد ذكر المنة بها عليهم حيث قال:{واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ... }[آل عمران: ١٠٣] ولو توجّه كل واحد في صلاته إلى ناحية، لكان ذلك يوهم اختلافاً ظاهراً، فعيّن الله تعالى لهم جهة معلومة، وأمرهم جميعاً بالتوجه نحوها، ليحصل لهم الموافقة بسبب ذلك.
ورابعها: أن الله تعالى خصْ الكعبة بإضافتها إليه في قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ}[الحج: ٢٦] وخصّ المؤمنين بإضافتهم بصفة العبودية إليه {ياعبادي}[العنكبوت: ٥٦] ، وكلتا الإضافتين للتخصيص والتكريم، فكأنه تعالى قال: يا مؤمن أنتَ عبدي، والكعبة بيتي، والصلاة خدمتي، فأقبلْ بوجهك في خدمتي إلى بيتي، وبقلبك إليّ. .) .