قال الزجاج:» إذا علم الرجل أنه إن قَتَل، أمسك عن القتل، فكان في ذلك حياة للذي همّ بقتله ولنفسه، لأنه من أجل القصاص أمسك. وأخذ هذا المعنى الشاعر فقال:
أبلغ أبا مالك عني مغلغلةً ... وفي العتاب حياةٌ بين أقوام
يريد أنهم إذا تعاتبوا أصلح العتاب ما بينهم «.
اللطيفة الثالثة: بيّنت هذه الآية على وجازتها حكمة القصاص، بأسلوب لا يُسامى، وعبارةٍ لا تُحاكى، واشتهر أنها من أبلغ آي القرآن.
ومن دقائق البلاغة فيها أن جعل فيها الضد متضمناً لضده، وهو (الحياة) في (الإماتة) التي هي القصاص، وعرّف القصاص ونكّر الحياة للإشعار بأن في هذا الجنس نوعاً من الحياة عظيماً لا يبلغه الوصف، وذلك لأن العلم به يردع القاتل عن القتل فيتسبب في حياة البشرية. ثم إنها في إيجازها قد ارتقت أعلى سماء للإعجاز، وقد اشتهر عن بعض بلغاء العرب كلمة في معناها، كانوا يعجبون من إيجازها وبلاغتها، ويظنون أن الطاقة لا تصل إلى أبعد من غايتها وهي قولهم:(القتل أنفى للقتل) وإنما فتنوا بهذه الكلمة وظنوا أنها نهاية ما يمكن أن يبلغه البيان، لأنها قيلت قبلها أقوال المشاهير البلغاء كقولهم:(قتل البعض إحياء للجميع) وقولهم: (أكثروا القتل ليقلّ القتل) وأجمعوا على أن كلمة (القتل أنفى للقتل) أبلغ هذه العبارات على الإطلاق.
قال الإمام الفخر:» وبيان التفاوت بين النظم الكريم وبين كلام العرب من وجوه عدة:
الأول: أن النظم الكريم (في القصاص حياة) أشد اختصاراً من قولهم (القتلُ أنفى للقتل) لأن حروفها أقل.