وزد على ذلك أن أسلوب عبارة القرآن بنفسه يدل دلالة واضحة على أن العفو المذكور في جملة {إِلَاّ الذين تَابُواْ ... وَأَصْلَحُواْ} إنما يرجع إلى جملة {وأولئك هُمُ الفاسقون} لأن جلد القاذف ثمانين جلدة وعدم قبول شهادته جاء ذكرهما في العبارة بصيغة الأمر {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} وجاء الحكم عليه بالفسق بصيغة الخبر {وأولئك هُمُ الفاسقون} فإذا جاء قوله تعالى: {إِلَاّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بعد هذا الحكم الثالث مقترناً به فهو يدل بنفسه على أن هذا الاستثناء إنما يرجع إلى الجملة الخبرية الأخيرة ولا يرجع إلى جملتي الأمر الأوليين. . وليست التوبة عبارة عن تلفظ الإنسان بها باللسان بل هي عبارة عن شعوره بالندامة واعتزامه على إصلاح نفسه، ورجوعه إلى الخير، وكلّ ذلك مما لا يعلم حقيقة إلا الله، ولأجل هذا فإنه لا تغتفر بالتوبة (العقوبة الدنيوية) وإنما تغتفر بها (العقوبة الأخروية) فحسبُ ... ومن ثمة فإن الله تعالى لم يقل: إلا الذين تابوا وأصلحوا فاتركوهم أو خلوا سبيلهم أو لا تعذبهم بل قال: {إِلَاّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فإنه لو كانت العقوبات الدنيوية أيضاً تغتفر بالتوبة فمن ذا الذي ترونه من الجناة لا يتوب اتقاء لعقوبته.
مذهب الشعبي والضحاك: وهناك مذهب وسط بين المذهبين هو مذهب (الشعبي والضحاك) فقد قالا: لا تقبل شهادة القاذف وإن تاب إلا أن يعترف على نفسه أنه قال البهتان فيما قذف فحينئذ تقبل شهادته، قال شهيد الإسلام (سيد قطب) عليه الرحمة والرضوان: وأنا اختار هذا المذهب الأخير لأنه يزيد على التوبة إعلان براءة المقذوف باعترافٍ مباشر من القاذف وبذلك يُمْحَى آخرُ أثرٍ للقذف.
أقول: وهذا المذهب الذي اختاره سيد قطب تبدو عليه مخايل الجودة