ومن هنا كان القرآن أولى باسم النور من العقل، وورد وصفه بالنور في قوله تعالى:{والنور الذي أَنزَلْنَا} ، وفي قوله:{وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} .
هذه هى الخطوة الثالثة في تجريد النور إذ نحن الآن بإزاء نور ليس من أنوار هذا العالم، بل من أنوار عالم الملكوت الذى منه القرآن. وعالم الملكوت هو العالم العلوى الذى تسكنه الملائكة وتعرج إليه نفوس السالكين. وهو عالم الغيب الذى يعتبر عالم الشهادة أثراً من آثاره وظلاً له ومسبّباً عنه. وهو عالم مشحون بالأنوار.
ثم إن أنوار عالم الملكوت التى تقتبس منها الأنوار الأرضية مرتَّبة بحسب قربها وبعدها من منبع النور الأول الذى يمثله الغزالى بضوء القمر عندما يدخل في كوة بيت فيقع على مرآة منصوبة على حائط، ثم ينعكس منها على مرآة على حائط آخر، ثم ينعطف إلى الأرض فينيرها. فهو نور واحد ظهر عنه بواسطة الانعكاسات أنوار كثيرة مستعيرة وجودها منه لأنه لا يمكن أن يشتق بعضها من بعض إلى غير نهاية، بل لا بد أن ترتقى إلى منبع النور الأول الذى هو النور بالذات أو النور الحقيقى أو النور المحض (الله) الذى لا يسمى غيره باسم النور إلا مجازاً.
هذا النور الحق هو الذى بيده الخلق والأمر، ومنه الإنارة أولاً وإدامة الإنارة ثانياً، ولا شركة لنور غيره في حقيقة اسم النور ولا استحقاقه.
ويقابل النور الظلمة. وإذا كان النور هو الوجود المحض، فالظلمة هى العدم المحض، لأن المعدوم ليس موجوداً لنفسه ولا لغيره. ولكن الغزالى لا يستعمل كلمتى النور والظلمة كما يستعملان في مذهب الثنوية الفارسية بمعنى مبدأين متعارضين متصارعين. وإنما النور عنده هو الوجود الإيجابى والعدم هو سلب الوجود. ولما كان الوجود ينقسم إلى ما له هذه الصفة من ذاته وإلى ما هى له من غيره؛ ولما كانت نسبة الوجود إلى هذا الأخير إنما هى من حيث إضافته إلى غيره لا من حيث ذاته، اعتبر في حكم