بظلمة الصفات السَّبُعية لغلبتها عليهم وكون إدراكها مقصودَها أعظم اللذات. وهؤلاء قنعوا بأن يكونوا بمنزلة السباع بل أخس.
وفرقة ثالثة رأت أن غاية السعادات كثرة المال واتساع اليسار لأن المال هو آلة قضاء الشهوات كلها، وبه يحصل للإنسان الاقتدار على قضاء الأوطار. فهؤلاء همتهم جمع المال واستكثار الضياع والعقار والخيل المسوّمة والأنعام والحرث وكنز الدنانير تحت الأرض. فترى الواحد يجتهد طول عمره يركب الأخطار في البوادى والأسفار والبحار ويجمع الأموال ويشح بها على نفسه فضلاً عن غيره: وهم المرادون بقوله عليه السلام: "تَعِس عبد الدراهم، تعس عبد الدنانير". وأى ظلمة أعظم مما يُلبّس على الإنسان؟. إن الذهب والفضة حجران (و ١٩ـ ب) لا يرادان لأعيانهما. وهى إذا لم يقض بهما الأوطار ولم تنفق فهى والحصباء بمثابة، والحصباء بمثابتها.
وفرقة رابعة ترقت عن جهالة هؤلاء وتعاقلت، وزعمت أن أعظم السعادات في اتساع الجاه والصيت وانتشار الذكر وكثرة الأتباع ونفوذ الأمر المطاع. فتراها لا همّ لها إلا المراءاة وعمارة مطارح أبصار الناظرين: حتى إن الواحد قد يجوع في بيته ويحتمل الضر ويصرف ماله إلى ثياب يتجمل بها عند خروجه كى لا ينظر إليه بعين الحقارة. وأصناف هؤلاء لا يحصون، وكلهم محجوبون عن الله تعالى بمحض الظلمة وهى نفوسهم المظلمة.