٣- صلاة الاستسقاء:
الاستسقاء لغة: طلب السقيا.
وشرعاً: سؤال الله تعالى أن يسقي عباده عند حاجتهم.
والأصل في مشروعيته ما روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً دخل يوم الجمعة من باب كان وُجاه المنبر ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً، فقال: يا رسول الله، هلكت المواشي وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: (اللهم اسقنا) - ثلاثاً - قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئاً، وما بيننا وبين سَلْع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل التُّرس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال: والله ما رأينا الشمس ستاً، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبله قائماً فقال: يا رسول الله الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل فادع الله يمسكها. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والجبال، والآجام والظراب والأودية ومنابت الشجر) قال: فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس. قال شَرِيك: فسألت أنساً: أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري"
(البخاري ج ١/ كتاب الاستسقاء باب ٥/٩٦٧. والقزعة: قطعة من السحاب رقيقة، والجمع قَزَع. وسَلْع معروف بالمدينة. ومثل الترس: أي مستديرة ولم ير أنها مثله في القدر. والآكام: الهضاب. والآجام: الأجمة: الشجر الكثير الملتف، والأجُم: الحصن. والظراب: جمع ظَرِب وهو ما نتأ من الحجارة وحدّ طرفه، أو الجبل المنبسط أو الصغير.)
أنواع الاستسقاء: والاستسقاء أنواع:
أدناها: الدعاء بلا صلاة، ولا خلف صلاة، فرادى ومجتمعين، في مسجد وغيره، وأحسنه ما كان من أهل الخير.
وأوسطها: الدعاء خلف صلاة الجمعة أو غيرها من الصلوات، وفي خطبة الجمعة، ونحو ذلك.
وأفضلها: الاستسقاء بصلاة ركعتين وخطبتين وتأهب لها قبل ذلك.
وحكم صلاة الاستسقاء هذه أنها سنة مؤكدة لتكرر الأحاديث الصحيحة فيها، من ذلك ما روى عبَّاد بن تميم عن عمه قال: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس ليستسقي فصلى بهم ركعتين جهر بالقراءة فيهما، وحول رداءه، ورفع يديه فدعا واستسقى واستقبل القبلة" (أبو داود ج ١/ كتاب الصلاة باب ٢٥٨/١١٦١) وتجوز إعادتها أكثر من مرة حتى يسقوا.
ويكون التأهب لها بأن يخطب الإمام الناس قبل عدة أيام من الخروج للصلاة، فيعظهم ويذكرهم، ويأمرهم بالخروج من المظالم، والتوبة من المعاصي، لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ما طفف قوم الميزان إلا أخذهم الله بالسنين" (البيهقي ج ٣/ ص ٣٤٧، والتطفيف: البخس في الميزان والمكيال. والسنين: مفردها سنة وهي القحط والجدب) وبمصالحة المتشاحنين، والصدقة والإقبال على الطاعات، لأنه أرجى للإجابة، وبصيام ثلاثة أيام (وهذا الصيام يكون واجباً إذا أمر به الإمام) قبل موعد الخروج، ثم يخرج بهم في اليوم الرابع صائمين لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم) (ابن ماجة ج ١/ كتاب الصيام باب ٤٨/١٧٥٢)
ويستحب لمن يخرج للاستسقاء التنظف بغسل وسواك لأنها صلاة يسن لها الاجتماع والخطبة فشرع لها الغسل والتنظف، لكن يستحب ألا يتطيب، وألا يخرج في زينة، بل يخرج في ثياب بذلة، وهي ثياب المهنة، وأن يخرج متواضعاً، خاشعاً متذللاً، متضرعاً ما شياً، ولا يركب في شيء من طريق ذهابه إلا لعذر كمرض ونحوه. روى ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متبذلاً متواضعاً، متضرعاً" (الترمذي ج ٢/ أبواب الصلاة باب ٣٩٥/٥٥٨)
ويستحب إخراج البهائم وإيقافها بمعزل عن الناس لعل الله تعالى يرحمها لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قول: (خرج نبي من الأنبياء يستسقي، فإذا هو بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء، فقال: ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل شان النملة) (المستدرك ج ١/ ص ٣٢٥)
ويكره إخراج الكفار، وكراهة خروج الصبيان منهم أخف لأن كفرهم ليس عناداً بخلاف الكبار. فإن خرجوا (أي الكفار عامة) لا يمنعون، إلا أنه يكره اختلاطهم بالمسلمين.
والسنة أن تصلى في الصحراء بلا خلاف، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها في الصحراء ولأنه يحضرها غالب الناس والصبيان والحُيّض والبهائم وغيرهم، فالصحراء أوسع لهم وأرفق بهم.
ولا يؤذن للصلاة ولا يقام، بل يستحب أن يقال: الصلاة جامعة، كصلاة الكسوف، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً يستسقي فصلى ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا فدعا الله، وحول وجهه نحو القبلة رافعاً يديه" (البيهقي ج ٣/ ص ٣٤٧)
كيفية الصلاة: هي ركعتان كصلاة العيد من حيث الافتتاح والتعوذ والتكبير سبعاً زائدة في الأولى، وخمساً زائدة في الثانية، لما ورد عن طلحة قال: أرسلني مروان إلى ابن عباس أسأله عن سنة الاستسقاء، فقال: "سنة الاستسقاء سنة الصلاة في العيدين إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلب رداءه فجعل يمينه على يساره، ويساره على يمينه، وصلى ركعتين وكبر في الأولى سبع تكبيرات، وقرأ سبح اسم ربك الأعلى، وقرأ في الثانية هل أتاك حديث الغاشية وكبر فيها خمس تكبيرات" (الدارقطني ج ٢/ص ٦٦) ويرفع يديه في كل مرة، ويجهر بالقراءة، والأفضل أن يقرأ في الركعتين ما يقرأ في العيد.
والسنة أن يخطب الإمام بعد الصلاة خطبتين، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً يستسقي فصلى ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا ... " (البيهقي ج ٣/ص ٣٤٧) وخطبتا الاستسقاء كالخطبتين في العيدين في الأركان والسنن، لكن يستغفر الله في الخطبتين بدلاً عن التكبير، فيفتتح الأولى بالاستغفار تسع مرات، والثانية بالاستغفار سبعاً يقول: "أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه" ويختم كلامه بالاستغفار، ويكثر منه في الخطبة حتى يكون أكثر كلامه، كما يكثر من قوله تعالى: {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً، ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات، ويجعل لكم أنهاراً} (نوح: ١٠-١٢)
والمستحب أن يدعو في الخطبة الأولى بما شاء من الأدعية، والأفضل أن يقول: "اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، مريئاً (مريئاً: حميد العاقبة) مريعاً (مريعاً ذا ريع وخصب) ، مجللاً، طبقاً (طبقاً: شاملاً، عاماً) سحاً (سحاً: صباً) دائماً. اللهم اسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانتين. اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء (اللأواء: الشدة) والجَهْد والضَنْك (الضنك: الضيق) ما لا نشكو إلا إليك. اللهم أنبت لنا الزرع، وأدّر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع، والعري، واكشف عنا ما يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً".
ويستحب في الخطبة الثانية أن يستقبل القبلة ويحول رداءه فيجعل يمينه يساره، وينكسه، فيجعل أسفله أعلاه، ويفعل الناس فعله لما روى عبد الله بن زيد الأنصاري رضي الله عنه" أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى يصلي، وأنه لما دعا أو أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه" (البخاري ج ١/ كتاب الاستسقاء باب ١٩/٩٨٢) ، ويفعل ذلك- تحويل الرداء- تفاؤلاً بتغير الحال إلى الخصب والسعة) وفي رواية عند أبي داود: "وحول رداءه فجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن" (أبو داود ج ١/ كتاب الصلاة باب ٢٥٨/١١٦٣)
كما يستحب فيها أن يدعو سراً ليجمع في الدعاء بين الجهر والإسرار ليكون أبلغ. وإذا أسر دعا الناس سراً، وإذا جهر أمنوا,. ويستحب أن يبالغوا جميعاً في الدعاء، ويرفعوا أيديهم فيه قال الشافعي: وليكن من دعائهم في هذه الحال: "اللهم أنت أمرتنا بدعائك ووعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا فأجبنا كما وعدتنا، اللهم امنن علينا بمغفرة ما قارفنا، وإجابتك في سقيانا، وسعة رزقنا"
ويسن لكل من حضر أن يستشفع سراً بخالص عمله، وبأهل الصلاح، ولا سيما أقاربه عليه الصلاة والسلام.
ويسن أن يدعو عند نزول المطر بقوله: "اللهم اجعله صيِّباً، هنيئاً (ابن ماجة ج ٢/ كتاب الدعاء باب ٢١/٣٨٩٠، والصيب هو ما سال من المطر) وسَيْباً نافعاً (ابن ماجة ج ٢/ كتاب الدعاء باب ٢١/٣٨٨٩، وسَيْباً أي مطراً جارياً على وجه الأرض من كثرته) مطرنا بفضل الله (البخاري ج ١/ كتاب الاستسقاء باب ٢٧/٩٩١) وله أن يدعو بما شاء.
ويقول عند التضرر بكثرة المطر: "اللهم حوالينا ولا علينا" لما ورد في حديث أنس رضي الله عنه المتقدم.