-٢- شيوخه:
يعتبر من شيوخ أحمد رضي الله عنه كل من تلقى عليهم فقهاً، أو أخذ عنهم سنة، أو روى عنهم حديثاً، سواء أكان قد انتقل إليهم، أم كانوا معه في بغداد، وقد أحصى ابن الجوزي في مناقب أحمد شيوخه عداً، فتجاوزت حسبتهم المائة. وكان تنوع شيوخه من أسباب كثرة تحصيله، وعمق معلوماته!. والذي لا شك فيه أنه كان لبعضهم أثر أكبر من البعض الآخر في حسن التوجيه وسداد الرأي.
ومن أبرز الشخصيات التي كان لها بالغ الأثر في توجيهه إلى السنة، وفي توجيهه إلى السنة، وفي توجيهه إلى الفقه، شخصيتان. أما الشخصية الأولى التي جعلت منه طالب سنة دءوباً في طلبها، يجوب لأجلها الأمصار، فهي شخصية هشيم بن بشير الذي لزمه نحو أربع سنوات كما ذكرنا، تكونت له خلالها النواة الأولى لعلمه في الحديث.
أما الشخصية الثانية فهي شخصية الشافعي رضي الله عنه الذي اتصل به الإمام أحمد عقب وفاة هشيم، عندما ذهب يحج بيت الله الحرام، فالتقى به هناك، ⦗٢١⦘ وأثار إعجابه عقله الفقهي وقوة استنباطه، ولقد صرح أحمد رضي الله عنه بذلك وكان يقول فيه: "يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة رجلاً يقيم لها أمر دينها، فكان عمر بن عبد العزيز على رأس المائة، وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة". وعلى هذا يعتبر الإمام الشافعي الموجه الثاني لأحمد بن حنبل رضي الله عنه إلى أصول الاستنباط كما وجهه هشيم في صدر حياته إلى الحديث، وطلب السنة.
-٣-دراساته الخاصة:
وإذا كنا قد قصرنا عدد الموجهين للإمام أحمد على اثنين من العلماء، فذلك لأن أحمد رضي الله عنه كان موجهه الأكبر من نفسه، ونزوعها وميولها، والتي نمتها الدراسات الشخصية المختلفة، ونوع الحياة الذي اختاره، واكتفاؤه من المال بالقليل، وعدم اتجاهه إلى مطمح مما تطمح إليه نفوس الرجال، وترنو إليه أنظارهم، فكانت حياته كلها للحديث وفقه السنة.
لقد طلب أحمد رضي الله عنه الحديث والسنة، وكان كلما أوغل في الطلب اشتدت رغبته فيه، كمن يذوق طعاماً فيستطيبه، إذ الرغبة بعد الذوق تشتد، بيد أن نهمة العلم لا تشبعها كثرة، ونهمة الطعام يشبعها القليل، لأنَّ الأولى معنوية، والمعاني لا تتخم، والثنية مادية، وقليل المادة يتخم.
ولقد كان أحمد رضي الله عنه يجهد في دراساته بين الأمصار، وقد ذكرنا كيف كان في صدر حياته كثير الانتقال إلى الأمصار، والجوب في القفار، ومحبرته في رحاله، وهو يقول بلسان الحال: مع المحبرة إلى المقبرة، ولا يمتنع -وهو الكهل الذي يعده الناس إماماً- على أن يعمل في طلب العلم ما يعمله الشاب الذي يستقبل العلم، وكان يقول وهو الإمام الحجة المقتدى به: "أنا أطلب العلم إلى القبر". ⦗٢٢⦘ وكان قدوته في ذلك سيرة إمامين جليلين لم يلقهما هما سفيان الثوري وعبد الله بن المبارك. فقد اتخذهما أحمد رضي الله عنه أستاذين له من سيرتهما، ومروياتهما، وكان يتلاقى معهما في أكثر ما اختلط لنفسه من السلوك في هذه الحياة.
-٤- عصره:
كانت حياة الإمام أحمد في العصر الذهبي من الخلافة العباسية؛ حيث نضج فيه كل شيء، وآتي أكله.. فمن الناحية السياسية استقرت الأمور للدولة العباسية استقراراً تاماً بعد فتنة الأمين والمأمون، فانصرف الخلفاء إلى الجهاد، وصادر للدولة الإسلامية قوة وسلطان وازدهرت الحياة الدينية فيها.
وأما من الناحية الفكرية فقد نضج الفقه، واستقامت طرائقه، والتقى العلماء، وتدارسوا الفقه ودونت المجموعة الفقهية لكل طائفة من المجتهدين، كما ظهر في ذلك العصر الاتجاه إلى وضع الكليات، وضبط أساليب الاستنباط الفقهي، وقد تولى عبء ذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه.
وقد ضج في عصر الإمام أحمد أيضاً علم الحديث، وتم فيه الجمع بين أحاديث الأقطار المختلفة، وطبيعية ذلك الجمع الإحاطة بالأحاديث الواردة في الأبواب الفقهية المختلفة، ودراستها دراسة مقارنة في إسنادها وفيما يستنبط منها الموازنة بينها من حيث القوة في حال تعارضها، وتعرف الناسخ والمنسوخ، وهكذا.
وإذا كان ذلك العصر هو عصر التقاء الثمرات الفقهية في كل الأمصار، فإن ذلك الالتقاء يصحبه احتكاك فكري بين العلماء، ومن طبيعة هذا الاحتكاك أن تتولد عنه المناظرات التي يقصد بها الوصول إلى الحق في القضايا المتنازعة.
وهكذا جاء الإمام أحمد في ذلك العصر الذي كان يزخر بأنواع المعارف والعلوم، فأخذ منها ما يتفق مع نزوعه ويتلاءم مع مزاجه ومسلكه الذي وجه إليه منذ نشأته الأولى، فاتجه إلى طلب الأحاديث والآثار من ينابيعها والعاكفين على دراستها، كما طلب الفقه من رجاله وممن غلب عليهم، فكان إماماً في الحديث والفقه.