٣- جلوسه للتحديث والفتوى: جلس أحمد رضي الله عنه للتدريس والفتيا في المسجد الجامع ببغداد، وقد بلغ الأربعين، فوافق في نشر علم النبوءة سن النبوءة، وكان إقبال الناس على مجالسه عظيماً إذ كان ذكره قد ذاع في الآفاق الإسلامية قبل أن يتخذ مجلساً، ويروى عدد من كانوا يستمعون إلى درسه نحو خمسة آلاف، وأنه كان يكتب منهم نحو خمسمائة.
وكانت مجالسه تمتاز بالوقار والسكينة وحسن الإنصات وإجلال العلم، وكانت بعيدة عن الدعابة والهزل وكل ما يذهب رواء العلم وروعة الدين، واكن للفقراء تقديم على الأمراء والأغنياء، نقل الذهبي عن المروزي قال: " لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أبي عبد الله، كان مائلاً إليهم، مقصراً عن أهل الدنيا وكان فيه حلم ولم يكن بالعجول، وكان كثير التواضع، تعلوه السكينة والوقار، إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا لا يتكلم حتى يسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر، يقعد حيث انتهى به المجلس".
ويظهر أنه كان له مجلسان للدرس والتحديث أحدهما: في منزله يحدث فيه خاصة تلاميذه وأولاده، والثاني: في المسجد يحضر إليه العامة والتلاميذ. وكانت دروسه من حيث موضوعها قسمين: أولهما: رواية الحديث ونقله: وهذه يميلها على تلاميذه من كتاب لا اتهاماً لذاكرته، بل حرصاً على جودة النقل وإبعاد لمظنة الخطأ ما أمكن، وفي الأحوال النادرة جداً كان يقول الحديث من غير رجوع إلى كتاب.
وثانيهما: فتاويه الفقهية التي كان يضطر إلى استنباطها، وهذه لا يسمح لتلاميذه أن يدونوها، ولا يسمح لهم أن ينقلوها عنه، إذ أنه ما كان يستجيز التدوين إلا لأحاديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. إلا أنه اضطر في آخر أمره أن يجيز كتابة فتاويه، بل نشرها؛ وبخاصة بعد محنته وذيوع اسمه وشهرته في كل البقاع ⦗١٦⦘ الإسلامية بعلوم الدين كلها، سواء ما كان يتصل بالعقيدة أم بالحديث والفقه.
فقد كان الناس يقصدونه للفتوى من أقصى العراق والشام وخراسان لمنزلته وشهرته في الورع والتقوى والفقه، فكثرت فتاويه حتى يروي العليمي في بيان علم الإمام أحمد رضي الله عنه ومنزلة فقهه أن عبد الوهاب الوراق قال: "ما رأيت مثل أحمد بن حنبل فقالوا له وأي شيء بان لك من فضله؟، فقال: رجل سئل عن ستين ألف مسألة فأجاب فيها: حَدَّثنا وأخبَرَنا".
وهذا الكلام يدل على أن الإمام أحمد كان يعتمد في فتاويه على أحاديث وأخبار وآثار السلف الصالح رضي الله عنهم، وهو يُعتبر في ذلك الحجة الثَبْتَ الذي لا يُجارى ولا يُباري. ولم يبح لنفسه أن يجتهد وأن يستنبط إن لم يجد ضرورة تستدعي ذلك. ولحرص أحمد رضي الله عنه في فقهه أن يكون بعيداً عن الابتداع في الدين كان لا يفتي إلا فيما يقع من الأمور.
وإذا كان الإفتاء في الأمور المتوقعة يكسب الفقه ضبطاً، وإحكاماً في الصياغة، فإن الإفتاء في الأمور الواقعة يكسبه حياة وقوة، ولذلك كان الفقه الحنبلي المأثور حياً نضراً، ريّان المحيّا، فيه جلال السلف؛ إذ هو أثر، أو من ينبوع الأثر، ولقد كان أحمد رضي الله عنه لتمرسه بالآثار قوي الإدراك لما يشبهها فينطق به، لأن فكره تكون منه، وأُشرب به، ومازج عقله وأطواء نفسه.
وهكذا كان الإمام أحمد سلفياً في فقهه وفتاويه، لا يقفوا ما ليس به علم، لأنه يعتقد أن الخروج عن تلك الجادة زيغ عن منهج السلف، لا يتكلف التعمق في مسائل عقلية قد تكون متاهات للعقل البشري، وإذا خرج من وعثائها سالماً فقد جهد نفسه في غير طائل، وشغل فكره في غير جدوى، ولها عن ذكر الله، وصد نفسه عن سبيل العبادة.
وبذلك نرى كيف انعقدت الإمامة لأحمد رضي الله عنه في الفقه والورع والسنة قال الحافظ الذهبي يصفه: "هو عالم العصر، وزاهد الوقت، ومحدث الدنيا، ومفتي العراق، وعالم السنة، وباذل نفسه في المحنة، وقل أن ترى العيون ⦗١٧⦘ مثله، كان رأساً في العلم والعمل، والتمسك بالأثر، ذا عقل رزين، وصدق متين، وإخلاص مكين، وخشية ومراقبة للعزيز العليم، وذكاء وفطنة وفهم وسعة علم....".
ولقد هيأته لهذه المكانة أربعة عوامل
أولها: صفاته.
وثانيها: الموجهون له من الشيوخ ومن يتصل بهم.
وثالثها: دراسته الخاصة.
ورابعها: العصر الذي أظله والبيئة التي اكتنفته.
ولنتجه إلى بيان كل عامل من هذه العوامل، ليتجلى لنا كيف تكونت لأحمد رضي الله عنه تلك الثروة العلمية الضخمة.
-١ - صفاته:
اتصف أحمد رضي الله عنه بصفات كانت هي السبب في هذه الشهرة التي اكتسبها، وفي ذلك العلم الغزير الذي خلفه من بعده.
- أول هذه الصفات الحافظة القوية الواعية، وهي صفة عامة المحدثين، وأهل الإمامة منهم بشكل خاص. ولقد شهد بقوة حفظه وضبطه معاصروه حتى عدَّ أحفظهم.
- والصفة الثانية، وهي أبرز صفات أحمد رضي الله عنه، وهي التي أذاعت ذكره، صفة الصبر والجلد وقوة الاحتمال، وهي مجموعة من السجايا الكريمة، أساسها قوة الإرادة، وصدق العيمة وبعد الهمة. وهذه الصفة هي التي جعلته يحتمل ما يحتمل في طلب العلم، غير وانٍ ولا راضٍ بالقليل منه.
ولقد كانت صفة الصبر التي امتاز بها الإمام أحمد من نوع الصبر الجميل، فقد نزل به الأذى (١) فما أنّ، وما ضج بالشكوى. وكان فيه صاحب الجنان الثابت ⦗١٨⦘ الذي لا يطيش ولا يذهب. ومما يروى دليلاً على ذلك أنه أدخل على الخليفة في أيام المحنة، وقد هولوا عليه لينطق بما ينجيه ويرضيهم، وقد ضرب عنق رجلين في حضرته، ولكنه في وسط ذلك المنظور المروع، وقع نظره أيضاً على بعض أصحاب الشافعي، فسأله: وأي شيء تحفظ عن الشافعي في المسح على الخفين، فأثار ذلك دهشة الحاضرين، وراعهم ذلك الجنان الثابت الذي ربط الله على قلب صاحبه، حتى لقد قال خصمه أحمد بن أبي داؤد متعجباً: "انظروا لرجل هو ذا يقدم لضرب عنقه، فيناظر في الفقه".
- وكان أحمد رضي الله عنه كثير العفو عمن يسيء إليه، أغلظ له رجل الكلام وتركه مغضباً ثم عاد إليه نادم، وقال له المعتذر: يا أبا عبد الله! إن الذي كان مني على غير تعمد، فأنا أحب أن تجعلني في حل، فقال أحمد رضي الله عنه: "ما زالت قدماي من مكانها حتى جعلتك في حل". وقد عفا عن كل من أساء إليه، أو تسبب في عقوبته ومحنته.
- أما الصفة الثالثة من صفات الإمام أحمد التي امتاز بها فهي النزاهة بأدق معانيها، ولقد دفعته عفة النفس أو نزاهتها أن يترك بعض الحلال، وأن يمتنع عن قبول عطاء الخلفاء، مع تصريحه لبعض أولاده بأنه حلال يصح الحج منه، وأنه يتركه تنزيهاً للنفس، لا تحريماً.
وبهذا التضييق الذي سلكه في شأن نفسه، كان يأكل إلا من كسب يده، أو من غلة عقار ورثه، ويلقى في سبيل ذلك العناء الشديد، والحرمان من كثير من طيبات الحياة، ولهذا كان زاهداً، ولكنه زهد، ليس أساسه رغبة الرغبة عن طيبات الحياة، بل أساسه طلب الحلال، ولكن لا يطلبه من مال فيه شبهة، بل من مال يناله من غير أن تصاب النفس في نزاهتها أو عزتها، ومن غير أن يلجأ في ذلك إلى أحد من العباد. وقد كان يضطر في بعض الأحيان أن يؤجر نفسه للحمل في الطريق -وهو إمام المسلمين- يومئذ - وقد ابتلي في أيام المتوكل بالإقبال والصلات والجوائز، كما ابتلي في أيام المعتصم بالتعذيب والصرم والقسوة، وكان في ⦗١٩⦘ كليهما صابراً عفيفاً نزيهاً، وكانت الأولى أشد عليه من الأخرى، وقد ثبت على عفافه وزهده وعزوفه عن أموال السلطان وله في ذلك أخبار غريبة. ويروى أن وزير المتوكل كتب له: "إن أمير المؤمنين قد وجه إليك جائزة، ويأمرك بالخروج إليه، فالله الله أن تستعفي، أو ترد المال، فيتسع القول لمن يبغضك" فيضطر أحمد رضي الله عنه ليبدد ظلمات السعاية إلى القبول، ولكنه لا يمسه، ويأمر ولده صالحاً أن يأخذه ثم يوزعه في اليوم التالي على أبناء المهاجرين والأنصار وغيرهم من أهل التجمل والحاجة، وكأنه يرى أنهم أولى بمال المسلمين منه، وقد حرموا عطاءهم.
وقد استفاد أحمد من هذا الزهد والتوكل على الله قوة روحية، وصلة عميقة بالله، وإنابة إليه، استحق بها النصر، وتغلب على نزوات النفس وشهواتها.
- والصفة الرابعة من صفات الإمام أحمد هي الإخلاص. والإخلاص في طلب الحقيقة ينقي النفس من أدران الغرض، فتستنير البصيرة، ويستقيم الإدراك، ويشرق القلب بنور المعرفة وهداية الحق. ولهذا كان أحمد رضي الله عنه يتجنب الرياء ويبالغ في الابتعاد عنه، وكان يؤثر أن لا يسمع به أحد فكان يقول: "أريد النزول بمكة ألقي نفسي في شعب من تلك الشعاب حتى لا أعرف".
ولهذا المعنى الجليل الذي سيطر على نفسه، فجعلها خالصة لربه كان يستقل ما يقوم به من عبادات ولا يستكثر ما وقع له من محنة، فكان لا يذكرها ويستر آثارها، وكان بعيداً عن الزهو والافتخار، متواضعاً لله، متطامناً للناس، ولا يفتخر في شيء، قال يحيى بن معين: "ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، صحبته خمسين سنة، ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الصلاح والخير".
- وقد وضع الله له القبول في قلوب العباد، وطار ذكره في الآفاق، ودعا له المسلمون، وتقربوا بحبه إلى الله، وهو يخاف على نفسه من الاستدراج، قال المروزي: "قلت لأبي عبد الله: ما أكثر الداعي لك! قال: أخاف أن يكون هذا استدراجاً، بأي شيء هذا؟ ". ⦗٢٠⦘
وقد كان كثير من غير المسلمين يجلّونه ويخضعون له، ويعتقدون فيه الصلاح، ويتبركون بزيارته، قال المروزي: "أدخلت نصرانياً على أبي عبد الله يعالجه، فقال: يا أبا عبد الله! إني أشتهي أن أراك منذ سنين، ما بقاؤك صلاح الإسلام وحده، بل للخلق جميعاً، وليس من أصحابنا أحد إلا رضي بك".
- أما الصفة الخامسة التي امتاز بها الإمام أحمد، وجعلت لدروسه وكلامه موقع من نفوس سامعيه لا تزول، فهي الهيبة. فقد كان مهيباً وقوراً، وكان الناس مدفوعين إلى إجلاله وتهيبه شأن " من تواضع لله رفعه الله" يقول أحد معاصريه: "دخلت على إسحاق بن إبراهيم، وفلان وفلان من السلاطين، فما رأيت أهيب من أحمد بن حنبل، صرت إليه، أكلمه في شيء، فوقعت علي الرعدة حين رأيته من هيبته".
(١) سيرد تفصيل محنته.