٢- رحلاته العلمية: ابتدأ الإِمام أحمد رحلاته في سنة ١٨٦ هـ؛ ليتلقى الحديث عن الرجال شفاهاً ويكتب عن أفواههم ما يقولون؛ فرحل إلى البصرة؛ ورحل إلى الحجاز؛ ورحل إلى اليمن؛ ورحل إلى الكوفة؛ وما سمع بعالم إلا رحل إليه، إلا إن حالت المنية دون اللقاء، فلم يستطع الاستماع إلى الإِمام مالك، إذ مات الأخير عند ابتدائه في طلب الحديث، ولم يتمكن من الاستماع إلى ابن المبارك إذ أن آخر قدمة له ببغداد كانت في السنة التي اتجه فيها أحمد رضي الله عنه إلى طلب الحديث، ولم يظفر بلقائه، كما ضاقت نفقته عن الرحلة إلى الري وقال:"لو كان عندي خمسون درهماً لخرجت إلى جرير بن عبد الحميد".
وكما رحل الإِمام أحمد في سبيل طلب العلم رحل في سبيل الحج، فقد روى لنا أنه حج خمس مرات، ثلاثاً على قدميه واثنتين راكباً.. وفي سنة ١٨٧ هـ التقى في رحلته إلى الحجاز مع الإِمام الشافعي، وأخذ عنه الفقه وأصوله، وعلم الناسخ والمنسوخ، ولقي الإِمام الشافعي بعد ذلك ببغداد، وقد حرر الشافعي فقهه، ونضج أحمد رضي الله عنه في الحديث وعلم الرواية، حتى كان الإِمام الشافعي يقول له:"إذا صح عندكم الحديث فأعلمني به". ⦗١٤⦘ إذن كان الإِمام أحمد يحتفي بطلب الحديث وآثار الرسول صلى الله عليه وسلم وفتاوى أصحابه كما كان
يطلب علم الفقه والاستنباط، وكان معجباً في هذا الباب بمنهج الشافعي الفقهي في القياس والاستنباط؛ واعترف بذكائه الباهر وقوة قياسه حتى قال:"ما رأت عيناي مثله".
ومما يدل على علو همة أحمد رضي الله عنه في طلب العلم واستطابته المشقة في سبيل ذلك، قصة يرويها ولده صالح، قال:"عزم أبي على الخروج إلى مكة، ورافق يحيى بن معين، قال أبي: نحج ونمضي إلى صنعاء إلى عبد الرزاق (١) ، قال: فمضينا حتى دخلنا مكة، فإذا عبد الرزاق في الطواف، وكان يحيى يعرفه، فطفنا ثم جئنا إلى عبد الرزاق، فسلم عليه يحيى، وقال: هذا أخوك أحمد بن حنبل، فقال: حياه الله! إنه ليبلغني عنه كل ما أُسَرّ به، ثبته الله على ذلك! ثم قام لينصرف، فقال يحيى: ألا نأخذ عليه الموعد؟ فأبى أحمد وقال: لم أغير النية في رحلتي إليه، ثم سافر إلى اليمن لأجله، وسمع عنه الكتب وأكثر عنه".
واستمر على هذا الجد والطلب حتى بلغ مبلغ الإِمامة في الحديث والفقه، قال عبد الله ابن أحمد، سمعت أبا زرعة يقول:"كان أبوك يحفظ ألف ألف حديث، فقيل له، وما يدريك؟ قال: ذاكرته، فأخذت عليه الأبواب". وقال أبو عبيدة:"ما رأيت رجلاً أعلم بالسنة من أحمد". وقال القاسم بن سلام:"انتهى العلم إلى أربعة: أحمد بن حنبل، علي بن المديني، أبي بكر بن شيبة ويحيى ابن معين. وأحمد أفقههم! " وقال أحمد بن سعيد الرازي: "ما رأيت أسود الرأس، أحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعلم بفقه من أحمد بن حنبل". وقد شهد له الإمام الشافعي بذلك فقال:"خرجت من بغداد، وما خلفت به أفقه ولا أورع ولا أزهد ولا أعلم من أحمد".
وقد استمر أحمد رضي الله عنه على جده في طلب العلم، حتى بعد أن بلغ مبلغ الإمامة، وكان رحمه الله تعالى يقول:"أنا أطلب العلم إلى أن أدخل ⦗١٥⦘ القبر". وهكذا كان الإمام أحمد يسير على الحكمة المأثورة:"لا يزال الرجل عالماً ما دام يطلب العلم، فإذا ظن أنه علم فقد جهل".