للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنْ المَصْدَرِيَّة:

هي أَحدُ نَواصِبِ المُضارع، وهي والفعلُ بمنزِلةِ المَصْدَر، وعلى هذا يجوز تَقْدِيمُها وتَأْخِيرُها، وتَقَعُ في كُلِّ مَوْضعٍ تَقَعُ فيه الأسْماء، إلاّ أنَّ المضارعَ بَعْدَهَا لِمَا لم يَقَع - أي للمُستَقبل نحو قولك: "أَنْ تَأْتِيَني خَيرٌ لك" وقَوْلِه تعالى: {وأْن تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (الآية "١٨٤" من سورة البقرة "٢") و "يسُرني أنْ تَجلِسَ" وقوله تعالى: {والذي أطْمعُ أنْ يَغْفِرَ لي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّين} .

وإن وَقَعَتْ على فِعلٍ ماضٍ كانتْ مَصْدَراً لِمَا مَضَى، تَقول: "سَرَّني أنْ قُمتَ" وقال الله عز وجل: {وامرأةً مُؤمِنَةً أنْ وَهَبتْ نَفْسَها للنبي} (الآية "٥٠" من سورة الأحزاب "٣٣") قراءة بِفَتْحِ أنْ، ونحو "سَاءَني أنْ كَلَّمَكَ زَيْدٌ وأَنْتَ غَضْبان" أي لهذه العِلَّةِ. وتقول "عَسَى زيدٌ أن يَقْرَأَ" أنْ مع الفعل بتأويل المصدر، ولكنْ لا يجوزُ أنْ تُظهِر المصدَرَ مع عَسَى، فتقولَ "عَسَى زيدٌ القيام" لأنَّ المصدَرَ يكونُ للماضِي والحَاضِرِ والمستقبل و "عسَى" إنما تُعدُّ لما يَقَعُ و "أنْ" النَّاصِبَةُ لا تَقَعُ ثابِتَةً، وإنَّما تَقَعُ مَطْلُوبةً أو مُتوَقِّعَة نحو "أرْجُو أنْ تَذهب" "وأتَوقَّع أنْ تأتي" أما الثَّابِتة التي لا تَقَعُ إلاّ بعدَ ثابتٍ فهي المُخَفَّفَةُ من الثقيلة، وإذا وَقَعتْ بعدَها الأفْعالُ المُسْتَقْبلة وكانَتْ بينَها وبينَها "لا" فإن عَمَلها على حالِه، تقول: "أُحِبُّ أَلاَّ تَذْهَب" و "أكْرَهُ ألاَّ تُكلِّم زَيداً" والمعنى: أكْرَه تَرْكك كلامَ زَيدٍ، ومنه قولُه تَعَالى: {إلاَّ أَنْ يَخَافَا أنْ لا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (الآية "٢٢٩" من سورة البقرة "٢") .

وَقَدْ يَشْتَرِكُ بالعَطْفِ بالوَاوِ، أو الفَاءِ، أوْ ثُمَّ أو فعلٌ آخرُ في "أَنْ" تقول: "أُرِيدُ أنْ تقومَ وتكرم زَيْداً" و "أرِيدُ أنْ تَأْتِيَني فَتُؤْنِسَني" و "أرِيدُ أن تَجلِسَ ثُمَّ نَتَحدَّثَ".

فإن كانَ الفِعْلُ الثاني خَارجاً عن مَعْنى الأَوّل كان مَقْطوعاً مُسْتَأْنَفاً أي لا يَتْبَعُ النَّصْب بأنْ نحو: "أُرِيدُ أن تَأْتِيَني، فتقْعُد عَني؟ " و "أرِيدُ أنْ تُكْرِم بَكْراً، فتهينه؟ " كما قال رُؤْبة أو الحُطَيئة:

والشِّعْرُ لا يَضْبِطُه من يَظْلِمُهْ ... إذا ارْتَقَى فيه الذي لا يَعْلَمُهْ

زَلَّتْ بِهِ إلى الحَضيضِ قَدَمُهْ ... يُريدُ أن يُعرِبه فيُعجِمُهْ

والشاهِد "يُعْجمُه" إذْ رفَعَه وقَطَعَهُ ولم يَعْطِفه، والعَطْفُ خَطَأٌ بالمَعْنَى، والمعنى: فإذا هُو يُعْجِمُهُ، و "أنْ" أمْكنُ الحُرُوفِ في نَصْبِ الأفعال. لذلك تَنْصِبُ ظَاهِرةً ومُضْمَرةً، فالظاهِرَةُ كما تَقَدَّم.

وأَمَّا المضمرَةُ: فتُضْمَرُ وجوباً في خمسَةِ مواضع:

بعد "لامِ الجُحُود" بعد "أو" بمعنى "إلى" أو "إلاَّ"، بعد "حَتَّى"، بعد "فاء السَّببيَّة"، بعد "واو المعيَّة".

(=كُلاَّ في حرفه) .

وتُضمرُ جوازاً بعد خمسة أيضاً:

(١) لام التعليل، إذا لَمْ يَسْبِقْها، كونٌ مَنْفِيٌّ، ولم يَقْتَرِن الفعل بـ "لا" الزائدة أو النافية، نحو {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمينَ} (الآية "٧١" من سورة الأنعام "٦٠") و {وَأُمِرْتُ لأَنْ أكُونَ أَوَّلَ المُسْلِمين} (الآية "١٢" من سورة الزمر "٣٩") فإن سُبِقت بالكون وجَبَ إضمار "أَنْ" وتكون اللامُ لامَ الجحود (انظرها في حرفها) ، وإنْ قُرِن الفِعلُ بـ "لا" النافية، أوِ الزَّائِدة، وَجَبَ إظْهَارُها، فالأَوَّل: نحو {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} (الآية "١٥٠" من سورة البقرة "٢") والثاني: {لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ} (الآية "٢٩" من سورة الحديد "٥٧") أي ليعْلَمَ.

والأربعةُ الباقِيةُ "الواوُ، الفاء، أَوْ، ثُمَّ". إذا كانَ العطفُ بها على اسمٍ صريحٍ.

فمِثالُ "الواو" قولُ مَيْسُون زَوجِ مُعاوِية:

وَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْني ... أَحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوف

(وتقَر: وتُسر، الشُّفُوفِِ: واحِدُها شفْ وهي الثياب الرقيقة)

ومثالُ "الفاءِ" قَوْلُ الشاعر:

لَوْلاَ تَوَقُّعُ مُعْتَرٍّ فأُرْضِيَه ... ما كُنْتُ أُوثِرُ إتْراباً على تَرَب

(التوقع: الانتظار، المعتر: السائل، الإتراب: مصدر أترب إذا استغنى، والترب: مصدر ترب إذا افتقر)

ومثال "أو" قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أو يُرْسِلَ رَسُولاً} (الآية "٥١" من سورة الشورى "٤٢") ومثال "ثُمَّ" قولُ أَنَس بن مُدْرِكة الخَثْعمي:

إِنِّي وَقَتْلِي سُلَيْكاً ثُمَّ أَعْقِلَهُ ... كالثَّورِ يُضرَبُ لمَّا عَافَتِ البَقَرُ

والنصب بـ "أَنْ" مُضْمَرة في غيْرِ مَا مَرَّ شَاذٌ كقولهم في المثل "تَسمعَ بالمُعَيْدي خَيْرٌ من أَنْ تَرَاه" (للمثل روايات منها هذه، ومنها: سَمَاعُك بالمُعَيْدي ومنها: أَنْ تَسمعَ بالمعيدي، ويضرب هذا المثل في الرجل تسمع عنه أكثر مما ترى فيه) . وقول الآخر: "خُذِ اللِّصَّ قَبْلَ يَأخُذَكَ".

ولا يجوزُ - عند البَصْريين - النصبُ على إضمار "أَنْ" في غير ما تقدَّم وبعضهم يُجيزه واسْتَشْهد بقول طَرَفة:

أَلاَ أيُّهذا الزَّاجري أحضُرُ الوَعَى ... وأنْ أَشْهَدَ اللَّذاتِ هل أَنْتَ مُخْلِدِي

ويُنشِده سيبويه بضم الراء من أَحْضُرُ مع اعتِرافه أنَّ أصْلَها: أنْ أحْضُرَ.

وبعضهم: يرويها: أحْضُرَ بالنصب على تقدير أن، وحسن ذلك عنده قول الشاعر بعدها: وأنْ أشهد.

<<  <  ج: ص:  >  >>