للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

٢٥ - حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ السَّدُوسِيُّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّائِيِّ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: " وَفَدَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي عَشَرَةٍ مِنَ الْعَرَبِ إِلَى الْيَمَنِ، فَبَيْنَا نَحْنُ ذَاتَ يَوْمٍ نَسِيرُ إِذْ مَرَرْنَا إِلَى جَانِبِ قَرْيَةٍ أَعْجَبَنَا عِمَارَتُهَا، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَوْ مِلْنَا إِلَيْهَا، فَدَخَلْنَا، فَإِذَا هِيَ قَرْيَةٌ أَحْسَنُ مَا رَأَيْتُ، كَأَنَّهَا زَخَائِفُ الرَّقْمِ، وَإِذَا قَصْرٌ أَبْيَضُ بِفِنَائِهِ شِيبٌ وَشُبَّانٌ، وَإِذَا جَوَارٍ نَوَاهِدُ أَبْكَارٌ، قَدْ أَحْجَمَ الثَّدْيُ عَلَى نُحُورِهِنَّ، قَدْ أَخَذْنَ الْمِهْزَامَ وَهُنَّ يُدِرْنَ، وَسَطَهُنَّ جَارِيَةٌ قَدْ عَلَتْهُنَّ جَمَالًا، بِيَدِهَا دُفٌّ تَضْرِبُهُ وَتَقُولُ:

[البحر الرجز]

مَعْشَرَ الْحُسَّادِ مُوتُوا كَمَدَا ... كَذَا نَكُونُ مَا بَقِينَا أَبَدَا

غَيَّبَ عَنَّا مَا نَعَانَا حَسَدَا ... وَكَانَ جَدُّهُ الشَّقِيَّ الْأَنْكَدَا

وَإِذَا غَدِيرٌ مِنْ مَاءٍ، وَإِذَا سَرْجٌ مَمْدُودٌ كَثِيرُ الْمَوَاشِي وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْخَيْلِ وَالْأَفْلَاءِ، وَإِذَا قُصُورٌ مُسْتَدِيرَةٌ، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِنَا: لَوْ وَضَعْنَا رِحَالَنَا فَتَأْخُذُ الْعُيُونُ مِمَّا تَرَى حَظًّا، وَتَقْضِي ⦗٤٨⦘ النُّفُوسُ مِنْهُ وَطَرًا، فَبَيْنَا نَضَعُ رِحَالَنَا إِذْ أَقْبَلَ قَوْمٌ مِنْ قِبَلِ الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ، عَلَى أَعْنَاقِهِمُ الْبُسُطُ، فَبَسَطُوا لَنَا ثُمَّ مَالُوا عَلَيْنَا بِأَطَايِبِ الطَّعَامِ، وَأَلْوَانِ الْأَشْرِبَةِ، فَاسْتَرَحْنَا وَأَرَحْنَا، ثُمَّ نَهَضْنَا لِلرِّحْلَةِ، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ وَقَالُوا: إِنَّ سَيِّدَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ يُقْرِئُكُمُ السَّلَامَ، وَيَقُولُ: اعْذُرُونِي عَلَى تَقْصِيرٍ إِنْ كَانَ مِنِّي، فَإِنِّي مَشْغُولٌ بِعُرْسٍ لَنَا، وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ. .، فَدَعَوْنَا لَهُمْ وَبَرَّكْنَا، فَعَمَدُوا إِلَى مَا بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ فَمَلَؤُوا مِنْهُ سَفَرَنَا، فَقَضَيْتُ سَفَرِي وَرَجَعْتُ مُتَنَكِّبًا لِذَلِكَ الطَّرِيقِ، فَغَبَرَتْ بُرْهَةٌ مِنَ الدَّهْرِ، ثُمَّ وَفَدَنِي مُعَاوِيَةُ فِي عَشَرَةٍ مِنَ الْعَرَبِ، لَيْسَ مَعِي أَحَدٌ مِمَّنْ كَانَ فِي الْوَفْدِ، فَبَيْنَا أُحَدِّثُهُمْ بِحَدِيثِ الْقَرْيَةِ وَأَهْلِهَا إِذْ قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: أَلَيْسَ هَذَا الطَّرِيقُ الْآخِذُ إِلَيْهَا؟ فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهَا فَإِذَا هِيَ دَكَادِكُ وَتُلُولٌ، وَأَمَّا الْقُصُورُ فَخَرَابٌ مَا يَبِينُ مِنْهَا إِلَّا الرُّسُومُ، وَأَمَّا الْغَدِيرُ فَلَيْسَ فِيهِ قَطْرَةٌ مِنَ الْمَاءِ، وَأَمَّا السَّرْجُ فَقَدْ عَفَا وَدَثَرَ أَمْرُهُ، فَبَيْنَا نَحْنُ وُقُوفٌ مُتَعَجِّبُونَ إِذْ لَاحَ لَنَا شَخَصٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ، فَقُلْتُ لِبَعْضِ الْغِلْمَانِ: انْطَلِقْ حَتَّى نَسْتَبْرِئَ ذَلِكَ الشَّخْصَ، فَقَال لَبِثَ أَنْ عَادَ مَرْعُوبًا، فَقُلْتُ لَهُ: مَا وَرَاءَكَ؟ فَقَالَ: أَتَيْتُ ذَلِكَ الشَّخْصَ فَإِذَا عَجُوزٌ عَمْيَاءُ فَرَاعَتْنِي، فَلَمَّا سَمِعَتْ حِسِّي قَالَتْ: أَسْأَلُكَ بِالَّذِي بَلَّغَكَ سَالِمًا إِلَّا أَخَذْتَ عَلَى عَيْنِكَ وَرُحْتَ حَتَّى دَخَلْتَ فِي التَّلِّ، ثُمَّ قَالَتْ: سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ، فَقُلْتُ: أَيَّتُهَا الْعَجُوزُ الْغَابِرَةُ، مَنْ أَنْتِ؟ وَمِمَّنْ أَنْتِ؟ ⦗٤٩⦘ فَأَجَابَتْنِي بِصَوْتٍ مَا يُبِينُ، أَنَا عَمِيرَةُ بِنْتُ دَوْبَلٍ سَيِّدِ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ:

[البحر الطويل]

أَنَا ابْنَةُ مَنْ قَدْ كَانَ يُقْرِي وَيُنْزِلُ ... وَيَحْنُو عَلَى الضِّيفَانِ وَاللَّيْلُ أَلْيَلُ

مِنْ مَعْشَرٍ صَارُوا رَمِيمًا أَبُوهُمُ ... أَبُو الْجَحَّافِ بِالْخَيْرِ دَوْبَلُ

قُلْتُ: مَا فَعَلَ أَبُوكِ وَقَوْمُكِ؟ قَالَتْ: أَفْنَاهُمُ الزَّمَانُ، وَأَبَادَتْهُمُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ، وَبَقِيتُ بَعْدَهُمْ كَالْمَزْجِ بَوَّأَهُ الْوَكْرُ، قُلْتُ: هَلْ تَذْكُرِينَ زَمَانًا كَانَ لَكُمْ فِي عُرْسٌ، وَإِذَا جِوَارٍ أَخَذْنَ الْمِهْزَامَ، وَسْطَهُنَّ جَارِيَةٌ بِيَدِهَا دُفٌّ تَضْرِبُ بِهِ، وَتَقُولُ:

أَيُّهَا الْحُسَّادُ مُوتُوا كَمَدَا؟

فَشَهِقَتْ وَاسْتَعْبَرَتْ وَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَذْكُرُ ذَلِكَ الْعَامَ وَالشَّهْرَ وَالْيَوْمَ وَالْعَرُسُ، كَانَتْ أُخْتِي، وَأَنَا صَاحِبَةُ الدُّفِّ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهَا: هَلْ لَكِ أَنْ نَحْمِلَكِ عَلَى أَوْطَاءِ دَوَابِّنَا وَنَغْذُوكِ بِغِذَاءِ أَهْلِهَا؟ قَالَتْ: كَلَّا، عَزِيزٌ عَلَيَّ أَنْ أُفَارِقَ هَذِهِ الْأَعْظُمَ حَتَّى أَؤولُ إِلَى مَا آلُوا إِلَيْهِ، قُلْتُ: مِنْ أَيْنَ طَعَامُكِ؟ قَالَتْ: يَمُرُّ بِيَ الرَّكْبُ فِي الْقِرْطِ فَيُلْقُونَ إِلَيَّ مِنَ الطَّعَامِ مَا يَكْفِينِي، وَالَّذِي أَكْتَفِي بِهِ يَسِيرٌ، وَهَذَا الْكُوزُ مَمْلُوءٌ مَاءً، مَا أَدْرِي مَا يَأْتِينِي بِهِ، وَلَكِنْ أَيُّهَا الرَّكْبُ مَعَكُمُ امْرَأَةٌ؟ قُلْنَا: لَا، قَالَتُ: فمَعَكُمْ مِنَ الثِّيَابِ الْبَيَاضِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، وَأَلْقَيْنَا إِلَيْهَا ثَوْبَيْنِ جَدِيدَيْنِ، فَتَجَلَّلَتْ بِهِمَا، وَقَالَتْ: رَأَيْتُ الْبَارِحَةَ كَأَنِّي عَرُوسٌ أَتَهَادَى مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ، وَقَدْ ظَنَنْتُ أَنَّ هَذَا يَوْمٌ أَمُوتُ فِيهِ، فَأَرَدْتُ امْرَأَةً تَلِي أَمْرِي، فَلَمْ تَزَلْ تُحَدِّثُنَا حَتَّى مَالَتْ فَنَزَعَتْ نَزْعًا يَسِيرًا وَمَاتَتْ، فَيَمَّمْنَاهَا وَصَلَّيْنَا عَلَيْهَا وَدَفَنَّاهَا، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى مُعَاوِيَةَ حَدَّثْتُهُ بِالْحَدِيثِ فَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: لَوْ كُنْتُ مَكَانَكُمْ لَحَمَلْتُهَا، ثُمَّ قَالَ: وَلَكِنْ سَبَقَ الْقَدَرُ "

<<  <   >  >>