للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ، أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، ثنا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، ثنا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ هِلَالِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّا لَنَجِدُ صِفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُهُ الْمُتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يُجْزِي بِالسَّيْئَةِ مِثْلَهَا وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَتَجَاوَزُ وَلَنْ أَقْبِضَهُ حَتَّى يُقِيمَ الْمِلَّةَ الْمُتَعَوِّجَةَ بِأَنْ يَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَفْتَحُ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: أَخْبَرَنِي اللَّيْثِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ كَعْبَ الْأَحْبَارِ يَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ فَهذَانِ عَالِمَانِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ شَهِدَا بِبَعْضِ مَا وَجَدَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِهَذَا شَوَاهِدُ عَنْهُمَا وَعَنْ غَيْرِهِمَا ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ، وَرُوِّينَا عَنْ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّهُ خَرَجَ يَبْتَغِي الدِّينَ حَتَّى أَتَى عَلَى شَيْخٍ بِالْجَزِيرَةِ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي خَرَجَ لَهُ فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَهْلِ بَيْتِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ خَرَجَ فِي بَلَدِكَ نَبِيٌّ وَهُوَ خَارِجٌ قَدْ طَلَعَ نَجْمُهُ فَارْجِعْ فَصَدِّقْهُ وَآمِنْ بِهِ. وَرُوِّينَا مَعْنَاهُ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَغَيْرِهِ ⦗٢٥٧⦘. وَمِنْ دَلَائِلِ مَا حَدَثَ بَيْنَ يَدَيْ أَيَّامِ مَوْلِدِهِ وَمَبْعَثِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأُمُورِ الْغَرِيبَةِ وَالْأَكْوَانِ الْعَجِيبَةِ الْقَادِحَةِ فِي سُلْطَانِ أُمَّةِ الْكُفْرِ وَالْمُوهِنَةِ لَكلِمَتِهِمُ الْمُؤَيِّدَةِ لِشَأْنِ الْعَرَبِ الْمُنَوِّهَةِ بِذِكْرِهِمْ كَأَمْرِ الْفِيلِ وَمَا أَحَلَّ اللَّهُ بِحِزْبِهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَالنَّكَالِ وَمِنْهَا خُمُودُ نَارِ فَارِسَ وَسُقُوطِ شُرُفَاتِ إِيوَانِ كِسْرَى وَغَيْضِ مَاءِ بُحَيْرَةِ سَاوَةَ وَرُؤْيَا الْمُوبَذَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمِنْهَا مَا سَمِعُوهُ مِنَ الْهَوَاتِفِ الصَّارِخَةِ بِنُعُوتِهِ وَأَوْصَافِهِ وَالرُّمُوزِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِبَيَانِ شَأْنِهِ وَمِنْهَا انْتِكَاسُ الْأَصْنَامِ الْمَعْبُودَةِ وَخُرُورُهَا لِوَجْهِهَا مِنْ غَيْرِ دَافِعٍ لَهَا عَنْ أَمْكِنَتِهَا يُرَى أَوْ يَظْهَرُ إِلَى سَائِرِ مَا رُوِيَ وَنُقِلَ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمَشْهُورَةِ مِنْ ظُهُورِ الْعَجَائِبِ فِي وِلَادَتِهِ وَأَيَّامِ حَضَانَتِهِ وَبَعْدَهَا إِلَى أَنْ بُعِثَ نَبِيَّا وَبَعْدَ مَا بُعِثَ وَهِيَ فِي كِتَابِ (الدَّلَائِلِ) مَذْكُورَةٌ يَتْبَعُ بَعْضَهَا بَعْضًا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللهُ فِيمَا قَرَأْتُ مِنْ كِتَابِهِ وَمِنْ دَلْائِلِ نُبُوَّتِهِ أَنَّهُ وُجِدَ فِي بَدْءِ أَمْرِهِ يَتِيمًا ضَعِيفًا عَائِلًا فَقِيرًا لَيْسَ لَهُ مَالٌ يَسْتَمِيلُ بِهِ الْقُلُوبَ وَلَا لَهُ قُوَّةٌ يَقْهَرُ بِهَا الرِّجَالَ وَلَا كَانَ فِي إِرْثِ مَلِكٍ فَتَثُوبُ إِلَيْهِ الْأَمَالُ طَمَعًا فِي دَرَكِ الْحَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَعَوْدِ الْمُلْكِ الْمَورُوثِ وَلَا كَانَ لَهُ أَنْصَارٌ وَأَعْوَانٌ يُطَابِقُونَهُ عَلَى الرَّأْيِ الَّذِي أَظْهَرَهُ وَالدِّينِ الَّذِي دَعَى إِلَيْهِ فَخَرَجَ عَلَى هَذَا الْحَالِ إِلَى الْعَرَبِ قَاطِبَةً وَإِلَى الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ كَافَّةً وَحِيدًا طَرِيدًا مَهْجُورًا مَحْقُورًا وَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَتَعْظِيمِ الْأَزْلَامِ مُقِيمُونَ عَلَى عِبَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْحَمِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ وَالتَّعَادِي وَالتَّبَاغِي وَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَشَنِّ الْغَارَاتِ وَاسْتِبَاحَةِ الْحَرَامِ لَا يَجْمَعُهُمْ أُلْفَةُ دِينٍ وَلَا تَمْنَعُهُمْ دَعْوَةُ إِمَامٍ وَلَا يَكُفُّهُمْ طَاعَةُ مَلِكٍ وَلَا يَحْجِزُهُمْ عَنْ سُوءِ أَفْعَالِهِمْ نَظَرٌ فِي عَاقِبَةٍ وَلَا خَوْفُ عُقُوبَةٍ أَوْ لَائِمَةٍ فَأَلَّفَ قُلُوبَهَا وَجَمَعَ كَلِمَتَهَا حَتَّى اتْفَقَتِ الْأَرَاءُ وَتَنَاصَرَتِ الْقُلُوبُ وَتَرَافَدَتِ الْأَيْدِي وَصَارُوا إِلْبًا وَاحِدًا فِي نُصْرَتِهِ وَعُنُقًا وَاحِدًا إِلَى طَاعَتِهِ وَهَجَرُوا بِلَادَهُمْ وَأَوْطَانَهُمْ وَجَفُوا قَوْمَهُمْ وَعَشَائِرَهُمْ فِي مَحَبَّتِهِ وَنَبَذُوا الْأَصْنَامَ الْمَعْبُودَةَ وَتَرَكُوا السِّفَاحَ وَكَانَ مُقْتَضَى شَهَوَاتِهِمْ وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَكَانَ وَفْقَ طِبَاعِهِمْ وَالرِّبَا وَكَانَ مُعْظَمُ أَمْوَالِهِمْ وَبَذَلُوا مُهَجَهُمْ وَأَرْوَاحَهُمْ فِي نُصْرَتِهِ وَنَصَبُوا وُجُوهَهُمْ لِوَقْعِ السُّيُوفِ بِهَا فِي إِعْزَازِ كَلِمَتِهِ بِلَا دُنْيَا بَسَطَهَا لَهُمْ وَلَا أَمَالٍ أَفَاضَهَا عَلَيْهِمْ وَلَا عِوَضٍ فِي الْعَاجِلِ أَطْمَعَهُمْ فِي نَيْلِهِ مِنْ مَالٍ يَحُوزُونَهُ أَوْ مُلْكٍ أَوْ شَرَفٍ فِي الدُّنْيَا يُحْرِزُونَهُ بَلْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَجْعَلَ الْمُلْكَ مِنْهُمْ سَوِيَّةً، الْغَنِيَّ فَقِيرًا، وَالشَّريِفَ أُسْوَةً بِالْوَضِيعِ، فَهَلْ تَلْتَئِمُ مِثْلُ هَذِهِ الْأُمُورُ أَوْ يَتَّفِقُ مَجْمُوعُهَا لِأَحَدٍ هَذَا سَبِيلُهُ مِنْ قِبَلِ الِاخْتِيَارِ الْعَقْلِيِّ أَوِ التَّدْبِيرِ الْفِكْرِيِّ أَوْ مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ أَوْ مِنْ بَابِ الْكَوْنِ وَالَاتِّفَاقِ لَا وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ وَسَخَّرَ لَهُ هَذِهِ الْأُمُورَ مَا يَرْتَابُ عَاقِلٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ إِلَهِيٌّ وَشَيْءٌ غَالِبٌ سَمَاوِيٌّ نَاقِضٌ لِلْعَادَاتِ، يَعْجَزُ عَنْ بُلُوغِهِ قُوَى الْبَشَرِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: وَقَدِ انْتَظَمَ جُمْلَةَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: ٦٣]

⦗٢٥٨⦘ قَالَ: وَمِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا لَا يَخُطُّ كِتَابًا بِيَدِهِ وَلَا يَقْرَؤُهُ، وُلِدَ فِي قَوْمٍ أُمَّيِّينَ وَنَشَأَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ فِي بَلَدٍ لَيْسَ بِهَا عَالِمٌ يَعْرِفُ أَخْبَارَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَيْسَ فِيهِمْ مُنَجِّمٌ يَتَعَاطَى عِلْمَ الْكَوَائِنِ وَلَا مُهَنْدِسٌ يَعْرِفُ التَّقْدِيرَ وَلَا فَيْلَسُوفٌ يُبْصِرُ الطَّبَائِعَ وَلَا مُتَكَلِّمٌ يَهْتَدِي لِرُسُومِ الْجَدَلِ وَوُجُوهِ الْمُحَاجَّةِ وَالْمُنَاظَرَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْحَاضِرِ عَلَى الْغَائِبِ، وَلَمْ يَخْرُجْ فِي سَفَرٍ ضَارِبًا إِلَى عَالِمٍ فَيَعْكُفُ عَلَيْهِ وَيَأَخُذُ مِنْهُ هَذِهِ الْعُلُومَ، وَكُلُّ هَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ بَلَدِهِ مَشْهُورٌ عِنْدَ ذَوِي الْمَعْرِفَةِ وَالْخِبْرَةِ بِشَأْنِهِ، يَعْرِفُهُ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ وَالْخَاصُّ وَالْعَالِمُ مِنْهُمْ فَجَاءَهُمْ بِأَخْبَارِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَقَدْ كَانَ ذَهَبَ مَعَالِمُ تِلْكَ الْكُتُبِ وَدَرَسَتْ وَحُرِّفَتْ عَنْ مَوَاضِعِهَا وَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِهَا وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِصَحِيحِهَا مِنْ سَقِيمِهَا إِلَّا الْقَلِيلُ، ثُمَّ حَاجَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ بِمَا لَوِ احْتَشَدَ لَهُ حُذَّاقُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَجَهَابِذَةُ الْمُحَصِّلِينَ لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُمْ نَقْضُ شَيْءٍ مِنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أَدَلِّ شَيْءٍ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ جَاءَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: ٥١] فَفِيهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا اقْتَصَصْنَا مِنْ حَالِهِ وَوَصَفْنَا مِنْ أَمْرِهِ فِي أَنَّهُ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ وَلَمْ يُعْرَفْ بِدَرْسِ الْكُتُبِ وَطَلَبِ الْأَخْبَارِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَهُوَ يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِهِ دَلَالَةً عَلَى صِحَّةِ أَمْرِهِ وَصِدْقِ دَعْوَاهُ، وَمِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ وَصِدْقِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَنَّهُ تَحَدَّى الْخَلْقَ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِعْجَازِ وَدَعَاهُمْ إِلَى مُعَارَضَتِهِ وَالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ فَنَكَلُوا عَنْهُ وَعَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِشَيْءٍ ⦗٢٥٩⦘ مِنْهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِعْجَازُهُ مِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَةِ وَحُسْنِ اللَّفْظِ دُونَ النَّظْمِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِعْجَازُهُ فِي نَظْمِهِ دُونَ لَفْظِهِ فَإِنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَكَلَّمَتْ بأَلْفَاظِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِعْجَازُهُ فِي إِخْبَارِهِ عَنِ الْحَوَادِثِ وَإِنْذَارِهِ بِالْكوَائِنِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ وَوُقُوعِهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي أَنْبَأَ عَنْهَا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِعْجَازُهُ فِي أَنَّ اللَّهَ أَعْجَزَ النَّاسَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ وَصَرَفَ الْهِمَمَ عَنْ مُعَارَضَتِهِ مَعَ وَقُوعِ التَّحَدِّي وَتَ‍وَفُّرِ الدَّوَاعِي إِلَيْهِ لِتَكُونَ آيَةً لِلنُّبُوَّةِ وَعلَامَةً لِصِدْقِهِ فِي دَعْوَاهُ. وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلمَاءِ إِلَى إِثْبَاتِ الْإِعْجَازِ لِلْقُرْآنِ مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِعْجَازَ فِي لَفْظِهِ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمُتدَاوَلَةٌ فِي خِطَابِهَا؛ لِأَنَّ الْبَلَاغَةَ لَيْسَتْ فِي أَعْيَانِ الْأَسْمَاءِ وَمُفْرَدِ الْأَلْفَاظِ وَحَسْبُ دُونَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَوْضَاعُ مُعْتَبَرَةً بَمَحَالِّهَا وَموَاضِعِهَا الْمُصَرَّفَةِ إِلَيْهَا، وَالْمُسْتَعْمَلَةِ فِيهَا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ تَعْرِفُ لَفْظَ الصَّدْعِ فِي لُغَتِهَا وَتَتَكَلَّمُ بِهِ فِي خِطَابِهَا ثُمَّ إِنَّكَ لَا تَجِدُهُ مُسْتَعْمَلًا لَهُمْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: ٩٤] وَيُسْتَعْمَلُ اسْمُ الضَّرْبِ ثُمَّ لَا تَجِدُهُ لَهُمْ مُسْتَعْمَلًا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف: ١١] وَكذَلِكَ لَفْظُ النَّبْذِ ثُمَّ لَا تَجِدُهُ لَهُمْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: ٥٨] إِلَى مَا يَجْمَعُ هَذَا الْكَلَامُ مِنَ الْوَجَازَةِ وَالَاخْتِصَارِ وَحَذْفِ الْمُقْتَضَى وَإِعْمَالِ الضَّمِيرِ وَالَاقْتِصَارِ عَلَى الْوَحْيِ الْمُفْهِمِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس: ٣٧] فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ: نُخْرِجُ مِنْهُ النَّهَارَ إِلَّا أَنَّ مَوْضِعَ الْبَلَاغَةِ ⦗٢٦٠⦘ هَاهُنَا فِي السَّلْخِ أَنَّهُ إِخْرَاجُ الشَّيْءِ مِمَّا لَابَسَهُ وَعَسُرَ انْتِزَاعُهُ مِنْهُ لِالْتِحَامِهِ بِهِ، وَذَلِكَ قيَاسُ اللَّيْلِ وَمِثَالُهُ، وَكَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {عَذَابَ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج: ٥٥] أَيْ: يَوْمٌ لَا يُعْقِبُ لِلمُعَذَّبِينَ غَدًا وَلَا يُنْتِجُ لَهُمْ خَيْرًا، قَالَ: وَقَدِ اسْتَحْسَنَ النَّاسُ فِي الْإِيجَازِ قَوْلَهُمُ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ. وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: ١٧٩] تَفَاوتٌ فِي الْبَلَاغَةِ وَالْإِيجَازِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ فِي هَذَا الْكَلَامِ كُلَّ مَا فِي قَوْلِهِمُ الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ، وَزِيَادَةَ مَعَانٍ لَيْسَتْ فِيهِ مِنْهَا: الْإِبَانَةُ عَنِ الْفِدَاءِ لِذِكْرِ الْقِصَاصِ، وَمِنْهَا الْإِبَانَةُ عَنِ الْغَرَضِ الْمَرْغُوبِ فِيهِ لِذِكْرِ الْحَيَاةِ، وَمِنْهَا بُعْدُهُ عَنِ التَّكَلُّفِ وَسلَامَتُهُ مِنْ تَكْرَارِ اللَّفْظِ الَّذِي فِيهِ عَلَى النَّفْسِ مَشَقَّةٌ وَعَلَى السَّمْعِ مَئُونَةٌ قَالَ الشَّيْخُ: وَقَوْلُهُ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: ١٧٩] أَوْجَزُ فِي الْعِبَارَةِ فَإِنَّهُ عَشَرَةُ أَحْرُفٍ، وَقَوْلُ مِنْ قَالَ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ، أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا، قَالَ: وَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذِهِ الْمَعَانِي مِنَ الْقُرْآنِ وَتَتَبَّعْتَهَا مِنْهُ كَثُرَ وُجُودُكَ لَهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا الْقَدْرَ لِيَكُونَ مِثَالًا مُرْشِدًا إِلَى نَظَائِرَ مِنْهُ، وَأَمَّا إِعْجَازُهُ مِنْ جِهَةِ النَّظْمِ فَالْمُعْجِزُ مِنْهُ نَظْمُ جِنْسِ الْكَلَامِ الَّذِي بَايَنَ بِهِ الْقُرْآنُ سَائِرَ أَصنَافِ الْكَلَامِ الَّتِي تَكَلَّمَتْ بِهَا الْعَرَبُ، فَإِنَّ أَجْنَاسَ كَلَامِ الْعَرَبِ الَّتِي تَكَلَّمَتْ بِهَا خَمْسَةٌ: ١ - الْمَنْثُورُ الَّذِي تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ فِي مُحَاوَرَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا ٢ - وَالشِّعْرُ الْمَوْزُونُ ٣ - وَالْخُطَبُ ٤ - وَالرَّسَائِلُ ٥ - وَالسَّجْعُ ⦗٢٦١⦘ وَكُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا نَمَطُهُ غَيْرُ نَمَطِ صَاحِبِهِ، وَنَظْمُ كَلَامِ الْقُرْآنِ مُبَايِنٌ لِهَذِهِ الْوُجُوهِ الَخَمْسَةِ مُبَايَنَةً لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ يَسْمَعُهُ مِنْ عَرَبِيٍّ فَصِيحٍ أَوْ ذِي مَعْرِفَةٍ بِلِسَانِ الْعَرَبِ مِنْ غَيْرِهِمْ حَتَّى إِذَا سَمِعَهُ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ يَشْهَدَ بِمُخَالَفَتِهِ لِسَائِرِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ مِنَ الْكَلَامِ وَالْحُجَّةِ إِنَّمَا قَامَتْ عَلَى قُرَيْشٍ وَسَائِرِ الْعَرَبِ بِوُقُوفِهِمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ، وَأَنَّ هَذَا الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْكَلَامِ هُوَ مَوْضِعُ الْحُجَّةِ، وَبِذَلِكَ صَارَ مُعْجِزًا لِلخَلْقِ وَقَائِمًا مَقَامَ الْحُجَجِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رُسُلَهُ وَاحْتَجَّ بِهَا عَلَى النَّاسِ مِثْلِ فَلْقِ الْبَحْرِ وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَمَنْعِ النَّارِ مِنَ الْإِحْرَاقِ وَلِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: ٢٣] إِلَى أَنْ قَالَ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: ٢٤] الْآيَةُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلمَاءِ: إِنَّ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْعَرَبِ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي أَعْجَزَهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ أَعْجَبُ فِي الْآيَةِ وَأَوْضَحُ فِي الدَّلَالَةِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى أَهْلَ الْبَلَاغَةِ وَأَرْبَابَ الْفَصَاحَةِ وَرُؤَسَاءَ الْبَيَانِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي اللِّسَانِ بِكَلَامٍ مَفْهُومِ الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ فَكَانَ عَجْزُهُمْ أَعْجَبَ مِنْ عَجْزِ مَنْ شَاهَدَ الْمَسِيحَ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَطْمَعُونَ فِيهِ وَلَا فِي إِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَلَا يَتَعَاطَوْنَ عِلْمَهُ، وَقُرَيْشٌ كَانَتْ تَتَعَاطَى الْكَلَامَ الْفَصِيحَ وَالْبَلَاغَةَ وَالْخَطَابَةَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَجْزَ عَنْهُ إِنَّمَا كَانَ لِأَنْ يَصِيرَ عَلَمًا عَلَى رِسَالَتِهِ وَصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ وَهَذِهِ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ وَبُرْهَانٌ وَاضِحٌ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ وَجْهَ مَا يَظْهَرُ بِهِ بَيْنُونَةُ الْقُرْآنِ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ هُوَ مَا يَقَعُ مِنَ السَّجْعِ فِي مَقَاطِعِ الْكَلَامِ وَمُنْتَهَى الْآيَاتِ نَحْوَ قَوْلِهِ {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: ٢] وَقَوْلِهِ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: ١] ، وَقَوْلِهِ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ⦗٢٦٢⦘ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} [الشمس: ١] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَالسَّجْعُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ غَيْرُ عَدِيمٍ وَلَا غَرِيبٍ فَكَيْفَ جَعَلْتُمْ ذَلِكَ عَلَمًا لِلْإِعْجَازِ. قِيلَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا سَجْعًا وَإِنَّمَا هِيَ فَوَاصِلُ تَفْصِلُ بَيْنَ الْكلَامَيْنِ بِحُرُوفٍ مُتَشَاكِلَةٍ فِي الْمَقَاطِعِ تُعِينُ عَلَى حُسْنِ إِفْهَامِ الْمَعَانِي، وَالْفَوَاصِلُ بَلَاغَةٌ وَالسَّجْعُ عَيْبٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَوَاصِلَ تَابِعَةٌ لِلْمَعَانِي وَأَمَّا الْأَسْجَاعُ فَالْمَعَانِي تَابِعَةٌ لَهَا، وَالسَّجْعُ تَكَلُّفٌ وَلَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْلِيفِ أَوَاخِرِ الْكَلِمِ عَلَى نَمَطٍ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ سَجْعَ الْحَمَامَةِ وَهُوَ مُوَالَاتُهَا الصَّوْتَ عَلَى نَمَطٍ لَا يَخْتَلِفُ، فَمَنْ شَبَّهَ الْفَوَاصِلَ التَّابِعَةَ لِمَعَانِي الْكَلَامِ الْمُفِيدَةَ حُسْنَ الْإِفْهَامِ بِالسَّجْعِ الْخَالِي عَنِ الْمَعْنَى الْمُتَتَبِّعَ لَهُ الْمُتَكَلَّفِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِكْرَاهِ فَقَدْ ذَهَبَ عَنِ الصَّوَابِ وَأَخْطَأَ مَذْهَبَ الْقِيَاسِ، وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ إِعْجَازَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ عَنِ الْأُمُورِ الْكَائِنَةِ فَوَجْهُهُ بَيِّنٌ وَشَوَاهِدُهُ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: ١] فَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ فَظَهَرَتْ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ فَاغْتَمَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَسُرَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَوَعَدَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِظُهُورِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ فَظَهَرُوا عَلَيْهَا لِتِسْعِ سِنِينَ وَقِيلَ: لِسَبْعٍ، وَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ أَهْلَ الْكِتَابِ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: ٧] فَكَانَ الْأَمر كما وعد من الظفر بإحدى الطائفتين دون الأخرى، وهو أنه ظفر بالمشركين الذين خرجوا من مكة ببدر، وانفلت أبو سفيان بن حرب بالعير.

<<  <   >  >>