للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ، يَقُولُ: لَا تُبَاعُ الثَّمَرَةُ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ بِالْأَوْسُقِ الْمُوَسَّقَةِ، إِلَّا الثَّلَاثَةَ، وَالْأَرْبَعَةَ، وَالْخَمْسَةَ، تُؤْكَلُ رُطَبًا، وَهِيَ الْمُزَابَنَةُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ، أَوْ بَعْضِهِمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَأَمَّا أَهْلُ الْعِرَاقِ فَقَوْلُهُمْ فِي الْعَرَايَا غَيْرُ ذَلِكَ. قَالُوا: إِنَّ هَذَا الْبَيْعَ - أَوْ مَنْ قَالَهُ مِنْهُمْ - لَا يَجُوزُ؛ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ تَمْرٌ بِرُطَبٍ مُجَازَفَةً، فَلَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ مُزَابَنَةٌ. قَالُوا: وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَتِ الرُّخْصَةُ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا لِأَنَّهَا هِبَةٌ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ، فَهِيَ فِي مِلْكِ الْوَاهِبِ عَلَى حَالِهَا. قَالُوا: وَلَوْ قَبَضَهَا الْمَوْهُوبَةُ لَهُ مَا حَلَّ بَيْعُهَا إِلَّا كَيْلًا مِثْلًا بِمِثْلٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ عِنْدِي لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ إِنْ كَانَتْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ مِلْكِ الْوَاهِبِ وَإِنَّمَا هِيَ مَالُهُ عَلَى حَالِهَا الْأُولَى فَأَيُّ بَيْعٍ يَقَعُ هَاهُنَا؟ وَلِأَيِّ مَعْنًى جَاءَتِ الرُّخْصَةُ فِيهِ؟ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا أَرْخَصَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَشْتَرِيَ مَالَ نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يَشْتَرِي مَا هُوَ مِلْكُ يَمِينِهِ؟ فَهَذَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي لِذِي عِلْمٍ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ ⦗٥٩١⦘، وَلَيْسَ الْأَمْرُ عِنْدِي إِلَّا عَلَى ذَلِكَ التَّأْوِيلِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْخَصَ فِي الْعَرَايَا، خُصُوصِيَّةً خَصَّهَا بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْمُزَابَنَةِ.

١٤٦٤ - كَمَا أَرْخَصَ لِلرَّجُلِ الَّذِي ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْعِيدِ أَنْ يُضَحِّيَ بِجَذَعَةٍ مِنَ الْمَعْزِ.

١٤٦٥ - وَكَمَا أَرْخَصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ؛ لِحَاجَةٍ كَانَتْ إِلَيْهِ.

١٤٦٦ - وَكَمَا جَعَلَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ.

⦗٥٩٢⦘

١٤٦٧ - وَكَمَا أَرْخَصَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْمُضْطَرِّ فِي الْمَيْتَةِ، وَالدَّمِ، وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، فِي أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا كَثِيرَةٍ، وَكَذَلِكَ الْعَرَايَا

١٤٦٨ - وَأَنْكَرَ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَيْضًا مَعَ هَذَا خَرْصَ الثِّمَارِ لِلصَّدَقَةِ، وَرَدُّوهُ بِوُجُوهٍ تَأَوَّلُوهَا. وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ: إِنَّ الْخَرْصَ مِنَ الْمُزَابَنَةِ فِي الْبَيْعِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ. قَالَ: وَهُوَ أَيْضًا كَالْقِمَارِ وَالْمُخَاطَرَةِ الَّتِي لَا يُدْرَى فِيهَا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ يَذْهَبُ بِمَالِ صَاحِبِهِ. قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ الْخَرْصُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُوَفَّقُ مِنَ الصَّوَابِ لِمَا لَا يُوَفَّقُ لَهُ غَيْرُهُ. قَالَ: وَكَذَا الْقُرْعَةُ لَا تَجُوزُ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ. فَهَذِهِ حُجَجُ مَنِ احْتَجَّ لَهُمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِلَالِ جَوَابٌ وَحُجَّةٌ تَدْخُلُ عَلَيْهِ. فَأَمَّا تَشْبِيهُهُ الْخَرْصَ بِالْمُزَابَنَةِ فِي الْبَيْعِ، وَإِبْطَالُهُ إِيَّاهُ فِي الصَّدَقَةِ مِنْ أَجْلِ الْبَيْعِ، فَلَيْسَتْ لَهُ هَاهُنَا حُجَّةٌ أَقْرَبَ إِلَى الْوَهْنِ وَالْغَيِّ مِنْ هَذِهِ، إِذْ جُعِلَتِ الصَّدَقَةُ قِيَاسًا عَلَى الْبُيُوعِ، وَشَرَائِعُ الْإِسْلَامِ أُمَّهَاتٌ لَا يُقَاسُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ حُكْمًا غَيْرَ حُكْمِ الْأُخْرَى، وَلَوِ احْتُجَّ مُحْتَجٌّ عَلَى قَائِلِ هَذَا، فَقَالَ: إِنْ جَازَ لَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْبَيْعَ أَصْلًا تَقِيسُ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِ، فَإِنِّي أَجْعَلُ الصَّدَقَةَ أَصْلًا أَقِيسُ الْبَيْعَ عَلَيْهِ، مَا كَانَ فِي الدَّعْوَى ⦗٥٩٣⦘ إِلَّا وَاحِدًا، وَكِلَاهُمَا أَخَذَ فِي غَيْرِ الصَّوَابِ، وَلَكِنْ تَمْضِي كُلُّ فَرِيضَةٍ عَلَى وَجْهِهَا وَسُنَّتِهَا.

١٤٧٠ - وَمَعَ هَذَا، أَنَّهُ لَوْ جَازَ لِلَّذِي شَبَّهَ الْبَيْعَ بِالصَّدَقَةِ قَوْلُهُ، مَا كَانَتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ إِلَّا عَلَيْهِ، لَا لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ فِي التَّمْرِ بِالتَّمْرِ رِبًا، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَهُوَ يَأْخُذُ مِنَ الثِّمَارِ فِي الصَّدَقَةِ عُشْرَهَا، وَيَكِيلُ لِأَرْبَابِهَا تِسْعَةَ أَعْشَارِهَا، فَهَلْ هَذَا مِنْ سُنَّةِ الْبَيْعِ أَنْ يُبَاعَ الصَّاعُ مِنَ التَّمْرِ بِتِسْعَةِ أَمْثَالِهِ، إِنْ كَانَ مِثْلَ الْبَيْعِ عَلَى مَا زَعَمَ؟ فَأَيْنَ ذَهَبَ بِقَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ؟ وَهَلْ غَلَطَ غَلَطَهُ أَحَدٌ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِسُنَّةٍ أَوْ نَظَرٍ؟

١٤٧١ - وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْخَرْصَ كَالْقِمَارِ، فَكَيْفَ يَتَسَاوَى هَذَانِ الْقَوْلَانِ؟ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِالْخَرْصِ قَصْدَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَوَضْعَ الْحُقُوقِ فِي مَوَاضِعِهَا، وَالْقِمَارُ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْفُجُورُ، وَالزَّيْغُ عَنِ الْحَقِّ، وَاجْتِيَاحُ الْأَمْوَالِ بِغَيْرِ حِلِّهَا، فَكَمْ بَيْنَ هَذَيْنِ؟ وَمَتَى سُوِّيَ الْغَيُّ بِالرَّشَادِ؟ مَعَ أَنَّ الَّذِيَ جَاءَ بِتَحْرِيمِ الْقِمَارِ هُوَ الَّذِي سَنَّ الْخَرْصَ وَأَبَاحَهُ، وَأْذِنَ فِيهِ، فَمَا جَعَلَ قَوْلَهُ هَاهُنَا مَقْبُولًا، وَهَاهُنَا مَرْدُودًا؟

١٤٧٢ - وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوَفَّقُ مِنَ الْخَرْصِ وَالْقُرْعَةِ لِمَا لَا يُوَفَّقُ لَهُ غَيْرُهُ، فَإِنَّهُ يُقَالَ لَهُ: هَلْ شَيْءٌ مِنَ الْأُمُورِ سِوَى هَذَيْنِ يُوَفَّقُ النَّاسُ لَهُ كَتَوْفِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا خَصَصْتَ هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ لَهُ بِالتَّوْفِيقِ دُونَ الْأَشْيَاءِ؟ وَلَوْ كَانَ النَّاسُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا فِيمَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ يُسَدَّدُونَ لِصَوَابِهِ كَتَسْدِيدِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَإِلَّا اجْتَنَبُوهُ، لَوَجَبَ عَلَى النَّاسِ إِذًا تَرْكُ الِاسْتِنَانِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَزِمَهُمُ اجْتِنَابُ أُمُورِهِ وَأَحْكَامِهِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ مُحِيطٌ بِأَنَّ مَنْ يَأْتِيهِ وَحْيُ السَّمَاءِ وَأَخْبَارُهَا، بَعِيدُ الشَّبَهِ مِمَّنْ يَعْمَلُ عَلَى عِلْمٍ مُغَيَّبٍ.

⦗٥٩٤⦘

١٤٧٣ - فَلَيْسَ الْأَمْرُ عِنْدِي مَا قَالَ هَذَا، وَلَيْسَتِ الطَّرِيقُ بِالَّتِي سَلَكَ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى النَّاسِ إِحْيَاءُ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِاقْتِفَاءُ لَأَمْرِهِ، وَالِاهْتِدَاءُ بِهَدْيِهِ فِي تَسْهِيلِ مَا سَهَّلَ، وَتَغْلِيظِ مَا غَلَّظَ، وَعَلَى اللَّهِ التَّوْفِيقُ وَالْقَبُولُ.

١٤٧٤ - فَالْخَرْصُ وَالْقُرْعَةُ عِنْدَنَا سُنَّتَانِ مَاضِيَتَانِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ عَمِلَتْ بِهِمَا الْأَئِمَّةُ وَالْعُلَمَاءُ بَعْدَهُ.

١٤٧٥ - وَإِنَّمَا تُخْرَصُ الثِّمَارُ فِي أَوَّلِ بُلُوغِهَا، إِلَّا أَنَّهَا تُحْسَبُ عَلَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ كَيْلُهَا إِذَا يَبِسَتْ وَصَارَتْ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا، وَهُمَا اللَّذَانِ يُؤْخَذَانِ فِي الصَّدَقَةِ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ الزُّهْرِيِّ يَرْفَعُهُ

<<  <   >  >>