للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

٩٦٧ - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمٍ، قَالَ: قِيلَ لِلرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَجِيءَ بِالْبَيْتِ مِنَ الشِّعْرِ، فَإِنَّ أَصْحَابَكَ كَانُوا يَجِيئُونَ بِالْبَيْتِ وَبِالْبَيْتَيْنِ؟ قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَلْفِظُ بِشَيْءٍ إِلَّا كُتِبَ وَجُعِلَ فِي إِمَامِهِ، وَرَآهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا يُعْرَضُ عَلَيْهِ إِمَامُهُ، وَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَقْرَأَ فِي كِتَابِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْتَ شِعْرٍ» وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِي مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا، هُوَ مَا رَوَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ الشَّعْبِيُّ، عَنْ قَوْلِهِ: «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا هُجِيتُ بِهِ» ، وَلَا مَعْنَى لِتَوَهُّمِ الْمُنْكِرِ صِحَّةِ مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِنْ قَالَ بِتَصْحِيحِهِ إِبَاحَةُ مَا دُونَ امْتِلَاءِ الْجَوْفِ مِنْ هِجَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ كَانَ الظَّاهِرُ مِنْهُ عِنْدَهُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الِامْتِلَاءِ مِنْهُ دُونَ الدَّلَالَةِ عَلَى النَّهْيِ عَمَّا هُوَ دُونَ الِامْتِلَاءِ، وَأَنَّ بَاطِنَهُ عِنْدَهُ يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ مَا دُونَ ⦗٦٥٢⦘ الِامْتِلَاءِ مِنْهُ، إِلَّا لِغَفْلَةٍ، بَلْ فِي ذَلِكَ الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ، لِمَنْ تَأَمَّلَهُ بِفِكْرٍ صَحِيحٍ، أَنَّهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهْيٌ عَنْ قَلِيلِ مَا هُجِيَ بِهِ مِنَ الشِّعْرِ وَكَثِيرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الِامْتِلَاءَ مِنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ نَظِيرَ الِامْتِلَاءِ مِنَ الْقَيْحِ الَّذِي يُورِثُ الْوَرْيَ، فَإِنَّ مَا دُونَ الِامْتِلَاءِ مِنْهُ نَظِيرُ مَا دُونَ الِامْتِلَاءِ مِنَ الْقَيْحِ الَّذِي مِنْ حُكْمِهِ أَنْ يُورِثَ الِامْتِلَاءُ مِنْهُ الْوَرْيَ، وَذَلِكَ لَا شَكَّ كُلُّهُ دَاءٌ مَكْرُوهٌ، وَضُرٌ عَلَى الْأَبْدَانِ مَحْذُورٌ، يَتَّقِيهِ كُلُّ ذِي فِطْرَةٍ صَحِيحَةٍ، وَيَهْرُبُ مِنْهُ كُلُّ ذِي بِنْيَةٍ سَلِيمَةٍ. فَإِنْ كَانَ نَظِيرَ الشِّعْرِ الَّذِي هُجِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَهُ شَبِيهًا لِتَمْثِيلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ بِهِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ قَدْ دَلَّ بِتَشْبِيهِهِ إِيَّاهُ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُولِي الْأَلْبَابِ مِنْ أُمَّتِهِ، عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ مِنَ اتِّقَاءِ قَلِيلِ ذَلِكَ وَكَثِيرِهِ وَالْحَذَرِ مِنْهُ، نَظِيرُ مَا فِي فِطْرَتِهِمْ وَبِنْيَتِهِمْ مِنَ اتِّقَاءِ قَلِيلِ مَا أَفْسَدَ أَجْوَافَهُمْ وَكَثِيرِهِ، وَأَوْرَثَهَا الدَّاءَ، مِنَ الْقَيْحِ الَّذِي يُورِثُهَا الْوَرْيَ كَثِيرُهُ. وَفِي كَوْنِ ذَلِكَ كَذَلِكَ صِحَّةُ مَا قُلْنَا، وَفَسَادُ مَا خَالَفَنَا. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْخَبَرَ الَّذِي ذَكَرْتَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ مُرْسَلٌ، وَرَاوِيهِ بَعْدُ مُجَالِدٌ، وَوَاجِبٌ فِي خَبَرِ مُجَالِدٍ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ، التَّثَبُّتُ فِيمَا كَانَ مِنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّصِلًا، فَكَيْفَ بِمَا يَكُونُ مِنْهُ مُرْسَلًا مُنْقَطِعًا؟ قِيلَ لَهُ: مَا قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ أَنَّ مَرَاسِيلَ الْعُدُولِ الَّذِينَ شَأْنُهُمُ التَّحَفُّظُ مِنَ الرِّوَايَةِ عَمَّنْ لَا يَجُوزُ الرِّوَايَةُ عَنْهُ مِنَ الْأَخْبَارِ، لِلَّهِ تَعَالَى دِينٌ لَازِمٌ مَنْ ⦗٦٥٣⦘ بَلَغَتْهُ قَبُولُهَا وَالدَّيْنُونَةُ بِهَا، مَعَ بَيَانِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ عَلَيْهِ قَبُولَ خَبَرِ مُجَالِدٍ وَنُظَرَائِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَبَعْدُ، فَإِنَّنَا لَمْ نَجْعَلْ عِلَّتَنَا فِي تَصْحِيحِ الْمَعْنَى الَّذِي تَأَوَّلْنَاهُ وَقُلْنَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» ، الْخَبَرَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ وَحْدَهُ، دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي نَتَّفِقُ نَحْنُ وَمُخَالِفُونَا عَلَيْهَا الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ. وَذَلِكَ أَنَّا نَقُولُ لِلزَّاعِمِ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: النَّهْيُ عَنِ الِامْتِلَاءِ مِنَ الشِّعْرِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي قَلْبِ صَاحِبِهِ شَيْءٌ غَيْرُهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ: أَخْبَرَنَا عَنِ النَّهْيِ الَّذِي وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الِامْتِلَاءِ مِنَ الشِّعْرِ، إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتُ، أَمَخْصُوصٌ لَهُ الشِّعْرُ خَاصَّةً، أَمْ ذَلِكَ عَامٌ فِي كُلِّ مَا امْتَلَأَ الْجَوْفُ مِنْهُ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِ غَيْرُهُ؟ فَإِنْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِهِ الشِّعْرُ خَاصَّةً، دُونَ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ غَيْرِهِ، قِيلَ لَهُ: الْجَائِزُ إِذًا أَنْ يَمْتَلِئَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ رِوَايَةَ أَسَاجِيعِ الْكُهَّانِ وَخُطَبِ الْخُطَبَاءِ، حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا مِنْ عُلُومِ الدِّينِ شَيْءٌ؟ فَإِنْ قَالَ: ذَلِكَ كَذَلِكَ، خَرَجَ مِنْ قَوْلِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، لِإِبَاحَتِهِ الْجَهْلَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ بِمَا لَمْ يُبِحِ اللَّهُ الْجَهْلَ بِهِ، وَمَنْ تَرْكِ حِفْظِ الْقُرْآنِ وَمَا لَا يَسَعُ تَرْكُ حِفْظِهِ لِأَحَدٍ ⦗٦٥٤⦘ وَإِنْ قَالَ: ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. قِيلَ: فَقَدْ بَطَلَ إِذًا أَنْ يَكُونَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مَعْنِيًّا بِهِ الشِّعْرُ خَاصَّةً. وَذَلِكَ تَرْكٌ مِنْهُ لِقَوْلِهِ. وَإِنْ قَالَ: بَلْ ذَلِكَ مَعْنِي بِهِ كُلُّ مَا امْتَلَأَ مِنْهُ جَوْفُ الْمَرْءِ كَائِنًا مَا كَانَ ذَلِكَ الَّذِي امْتَلَأَ مِنْهُ، شِعْرًا أَوْ غَيْرَهُ، تَرَكَ الْقَوْلَ بِالْخَبَرِ، وَقِيلَ لَهُ: فَقَدْ يَجِبُ إِذًا، إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، أَنْ يَكُونَ مَنِ امْتَلَأَ قَلْبُهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةِ، أَنْ يَكُونَ مُمْتَلِئًا قَلْبُهُ مِنَ الْقَيْحِ الَّذِي يَرِيهِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ امْتِلَائِهِ مِنْ ذَلِكَ. وَذَلِكَ قَوْلٌ إِنْ قَالَهُ لَا يَخْفَى فَسَادُهُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ صَحِيحَةٍ. وَإِنْ قَالَ: بَلْ ذَلِكَ مَعْنِيٌّ بِهِ الِامْتِلَاءُ مِنْ بَعْضِ الْمَعَانِي دُونَ بَعْضٍ. قِيلَ لَهُ: فَمَا ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي عُنِيَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ؟ فَإِنْ سَمَّى شَيْئًا بِعَيْنِهِ مِنْ صُنُوفِ الْعُلُومِ عُورِضَ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِهِ، فَلَنْ يَقُولَ فِي أَحَدِهِمَا قَوْلًا إِلَّا أُلْزِمَ فِي الْآخَرِ مِثْلَهُ. وَفِي فَسَادِ الْقَوْلِ بِجَوَازِ امْتِلَاءِ الْقَلْبِ مِنْ بَعْضِ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ مِنْ غَيْرِ عُلُومِ الدِّينِ، حَتَّى لَا يَكُونَ فِي الْقَلْبِ غَيْرُهُ، وَلَا شَيْءَ يُخَالِطُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ أَبْيَنُ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا يَرِيهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» ، بِخِلَافِ الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَأَوَّلَهُ بِمَعْنَى الِامْتِلَاءِ مِنَ الشِّعْرِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ غَيْرُهُ. وَأُخْرَى: أَنَّ الشِّعْرَ كَلَامٌ كَسَائِرِ الْكَلَامِ غَيْرِهِ، حَسَنُهُ حَسَنٌ، وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ، كَمَا حَسَنُ غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ حَسَنٌ، وَقَبِيحُ غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ قَبِيحٌ، غَيْرَ أَنَّ لَهُ بِأَنَّهُ مُؤْتَلِفُ النِّظَامِ، مُتَّسِقُ الْأَوْزَانِ الْفَضْلَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مَنْثُورِ الْكَلَامِ، وَلَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ مَعْنَى غَيْرِهِ مِنَ الْكَلَامِ، فِي أَنْ يَكُونَ سَبِيلُهُ سَبِيلَهُ، فِي أَنَّ مَا حَسُنَ قِيلُهُ ⦗٦٥٥⦘ وَرِوَايَتُهُ مِنْ غَيْرِهِ حَسُنَ مِنْهُ، وَمَا قَبُحَ قِيلُهُ وَرِوَايَتُهُ مِنْ غَيْرِهِ قَبُحَ. فَأَمَّا الِامْتِلَاءُ مِنْ مَعْنًى مِنْهُ حَتَّى لَا يُخَالِطَ الْقَلْبَ غَيْرُهُ مِنْ عِلْمِ الْقُرْآنِ وَأُمُورِ الدِّينِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ، مِنْ أَيِّ الْمَعَانِي كَانَ ذَلِكَ، فَلَا وَجْهَ لِأَنْ يُخَصَّ بِذَلِكَ الشِّعْرَ دُونَ غَيْرِهِ. وَفِي كَوْنِ ذَلِكَ كَذَلِكَ الْبَيَانُ الْوَاضِحُ أَنَّ الْقَوْلَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مَا قُلْنَاهُ دُونَ مَا خَالَفَهُ. وَأَمَّا الَّذِينَ أَنْكَرُوا رِوَايَةَ جَمِيعِ أَصْنَافِ الشِّعْرِ، وَقِيلَ جَمِيعِ أَنْوَاعِهِ اعْتلِالًا مِنْهُمْ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي ذَلِكَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ الْأَخْبَارَ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاهِيَةُ الْأَسَانِيدِ، غَيْرُ جَائِزٍ الِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِهَا فِي الدِّينِ. وَالصَّحِيحُ مِنَ الْأَخْبَارِ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مِنْ أَمْرِ حَسَّانَ وَغَيْرِهِ مِنْ شُعَرَاءِ الصَّحَابَةِ بِهِجَاءِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِعْلَامِهِ إِيَّاهُمْ أَنَّ لَهُمُ عَلَى ذَلِكَ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ، وَاسْتِنْشَادِهِ إِيَّاهُمْ، وَتَمَثُّلِهِ أَحْيَانًا مِنْ ذَلِكَ بِالْبَيْتِ بَعْدَ الْبَيْتِ. وَالشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ، وَإِخْبَارِهِ أَصْحَابَهُ أَنَّ هِجَاءَ مَنْ هَجَا مِنْ شُعَرَاءِ أَصْحَابِهِ الْمُشْرِكِينَ أَشَدُّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ نَضْحِهِمْ إِيَّاهُمْ بِالنَّبْلِ. وَلَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ قَبِيلَةً مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ أَسْلَمُوا بِوَعِيدِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ إِيَّاهُمْ فِي شَعْرِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا كَانَتْ نِكَايَتُهُ فِي الْعَدُوِّ النِّكَايَةُ الَّتِي تَدْعُو أُمَّةً مِنْهُمْ إِلَى الْإِذْعَانِ بِالطَّاعَةِ، وَالدُّخُولِ فِي الدِّينِ، وَالْمُسَالَمَةِ، أَبْلَغَ فِي الْمَكِيدَةِ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ وَالضِّرَابِ بِالسَّيْفِ، وَأَنَّ مَا كَانَ مَبْلَغُهُ فِي نَكَايَةِ الْعَدُوِّ هَذَا الْمَبْلَغِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْفُلَ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ. وَإِذَا كَانَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْفُلَ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ لَمْ يُجُزْ أَنْ يُقَالَ: لَا يَحِلُّ قِيلُهُ وَرِوَايَتُهُ، بَلْ هُوَ إِلَى وجُوبِ قِيلِهِ وَرِوَايَتِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى لُزُومِ تَرْكِهِ وَتَرْكِ رِوَايَتِهِ ⦗٦٥٦⦘. وَيُقَالُ لِجَمِيعِ مَنْ أَنْكَرَ قِيلَ الشِّعْرِ وَرِوَايَتِهِ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلَِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء: ٢٢٥] مُخْتَلَفٌ فِيهِ حُكْمُ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُمْ أَمْ مُتَّفَقٌ؟ فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُ مُتَّفَقٌ خَالَفُوا فِي ذَلِكَ نَصَّ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَالَفَ بَيْنَ أَحْكَامِهِمْ، فَأَخْرَجَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ حُكْمِ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ. وَإِنْ قَالُوا: بَلْ هُوَ مُخْتَلَفٌ قِيلَ لَهُمْ: فَقَدْ وَضَحَ إِذَنْ أَنَّ الْمَذْمُومَ مِنَ الشُّعَرَاءِ غَيْرُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا، وَأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ صِفَتُهُمْ خِلَافَ هَذِهِ الصُّفَّةِ، فَأَمَّا مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ وَعَمِلَ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا فَغَيْرُ مَذْمُومِينَ، بَلْ هُمْ مَحْمُودُونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>