٥١٢ - كَمَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَلْخِيُّ، حَدَّثَنَا الْفَرَبْرِيُّ، حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلَاثًا يَبْنِي عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَقَالُوا: إِنْ حَجَبَهَا فَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّى لَهَا خَلْفَهُ وَمَدَّ الْحِجَابَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ. فَهَذَا نُزُولُ الْحِجَابِ كَانَ أَوَّلُهُ يَوْمَ نِكَاحِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ زَيْنَبَ، وَقَدْ كَانَ الْحِجَابُ كَمَا تَرَى قَبْلَ خَيْبَرَ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ بِلَا شَكٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَهَكَذَا ذَكَرَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ، فَقَالَتْ عَنْ صَفْوَانَ: وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الْحِجَابِ، فَسَقَطَ التَّعَلُّلُ كُلُّهُ الَّذِي شُغِبَ بِهِ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ بِلَا شَكٍّ أَصْلًا، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. ثُمَّ نَرْجِعُ إِلَى تَأْلِيفِ الْأَخْبَارِ الَّتِي أَوْرَدْنَا فِي الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، وَإِلَى بَيَانِ أَنَّهَا لَا تَعَارُضَ فِيهَا، وَأَنَّهَا كُلَّهَا مُتَّفِقَةٌ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهَا أَصْلًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَثِيرًا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ ⦗٤٣٩⦘. فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ تَعَالَى نَسْتَعِينُ: إِنَّ الرِّوَايَاتِ قَدْ جَاءَتْ كَمَا أَوْرَدْنَا، وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ فِي أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ إِلَّا حَجَّةً وَاحِدَةً فَقَطْ فَعَلِمْنَا ضَرُورَةً أَنَّ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ فِيهَا الصَّوَابُ بِلَا شَكٍّ، وَسَائِرَهَا إِمَّا وَهْمٌ، وَإِمَّا فِيهَا حَذْفٌ بِإِثْبَاتِهِ تَتَّفِقُ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا. فَلَزِمَنَا أَنْ نَطْلُبَ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ لِنَعْتَقِدَهُ إِذْ لَا يَخْلُو كُلُّ شَيْءٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ مِنَ الدِّيَانَةِ الَّتِي أَمَرَنَا بِهَا اللَّهُ تَعَالَى بِطَلَبِ الْحَقِّ فِيهَا وَإِصَابَتِهِ مِنْ دَلِيلٍ بَيِّنٍ وَاضِحٍ يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ عَلَيْنَا كُلَّ مَا أَلْزَمَنَا مَعْرِفَتَهُ، وَكُلَّ مَا أَوْجَبَ عَلَيْنَا الْعَمَلَ بِهِ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعِلْمِ أَحَدَ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ لَا خَامِسَ لَهَا عَلَيْهَا اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي الْفِقْهِ وَهِيَ: إِمَّا أَنْ يُنْزَلَ مَا اخْتُلِفَ فِيهِ، وَيُعْتَمَدَ عَلَى مَا لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ. وَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ بِزِيَادَةِ مَنْ زَادَ مِنْهُمْ فِي رِوَايَتِهِ بَيَانًا لَمْ يَأْتِ بِهِ الْآخَرُونَ وَكُلُّهُمْ عُدُولٌ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ؛ لِأَنَّهَا نَذَارَةٌ وَشَهَادَةٌ، فُرِضَ عَلَيْنَا الْأَخْذُ بِهَا، وَعِلْمٌ عِنْدَ الَّذِي زَادَهُ ذَكَرَهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الَّذِي لَمْ يَذْكُرْهُ. وَإِمَّا أَنْ نَطْلُبَ أَقْوَى الرِّوَايَاتِ بِبُرْهَانٍ وَاضِحٍ عَلَى أَنَّهُ أَقْوَاهَا بَيَانًا لَا بِدَعْوَى عَارِيَةٍ مِنَ الْبُرْهَانِ، إِذْ كُلُّ الرُّوَاةِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا عُدُولٌ، فَلَيْسَ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِقَبُولِ رِوَايَتِهِ مِنْ سَائِرِهِمْ إِلَّا بِبُرْهَانٍ وَاضِحٍ. وَإِمَّا أَنْ نَفْعَلَ مَا أَمَرَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِذْ يَقُولُ {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: ٥٩] قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرْنَا آخِرًا هُوَ الَّذِي لَا يَجُوزُ ⦗٤٤٠⦘ غَيْرُهُ، وَلَا يَحِلُّ أَنْ يُعْتَمَدَ سِوَاهُ؛ لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَسَعُ أَحَدًا خِلَافُهُ. فَلَمَّا فَعَلْنَا ذَلِكَ صَحَّ لَنَا بِلَا مِرْيَةٍ وَلَا شَكٍّ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا، لَا تَحْتَمِلُ الْأَحَادِيثُ غَيْرَ ذَلِكَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَلَا يَسَعُ خِلَافُهُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي إِلَيْهَا فَزَعَ النَّاسُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَيْهِمْ، وَهِيَ الَّتِي ذَكَرْنَا آنِفًا كُلُّهَا تُثْبِتُ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا، وَتُبْطِلُ مَا عَدَاهُ. فَأَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ، فَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرْنَا أَخِيرًا، وَهُوَ الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ تَعَدِّيهِ، وَهُوَ رَدُّ مَا تَنَازَعْنَا فِيهِ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَقُولُ وَبِهِ عَزَّ وَجَلَّ نَعْتَصِمُ: لَمَّا اخْتَلَفَ الرُّوَاةَ عَنِ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَفْرَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَمَتَّعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَرَنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ، كَانَ هَذَا تَنَازُعًا يَجِبُ رَدُّهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَلَمَّا فَعَلْنَا ذَلِكَ وَجَدْنَاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَهُمْ وَنَصَّ بِكَلَامِهِ الَّذِي لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى غَيْرِهِ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا كَمَا ذَكَرَ عَنْهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، إِذْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَكِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ» ، وَكَمَا ذَكَرَ أَنَسٌ أَنَّهُ سَمِعَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا، لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا» ، وَكَمَا ذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُلَبِّي بِهِمَا مَعًا، وَكَمَا ذَكَرَتْ حَفْصَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَرَّرَتْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَنَّهُ مُعْتَمِرٌ بِعُمْرَةٍ، لَمْ ⦗٤٤١⦘ يَحِلَّ مِنْهَا، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، بَلْ صَدَّقَهَا وَأَجَابَهَا: أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ حَاجٌّ، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُصِرُّ عَلَى بَاطِلٍ يَسْمَعْهُ أَصْلًا، بَلْ يُنْكِرُهُ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ، فَصَحَّ بِمَا ذَكَرْنَا قِرَانُهُ يَقِينًا، وَلَيْسَ فِي كُلِّ مَا رُوِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ: «لَبَّيْكَ بِحَجٍّ مُفْرَدٍ» وَلَا أَحَدَ قَالَ، إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ: أَفْرَدْتُ الْحَجَّ، وَلَا رُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ، وَلَا أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي تَمَتَّعْتُ، وَهُوَ بِلَا شَكٍّ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ، فَلَمَّا ذَكَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَرَنَ، وَسُمِعَ يُلَبِّيَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، صَحَّ أَنَّهُ قَارِنٌ يَقِينًا، فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةُ عُدُولٍ مِنْ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، يَشْهَدُونَ أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُخْبِرُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ قَارِنٌ، وَكَانَ هَذَا أَوْلَى عِنْدَ كُلِّ ذِي فَهْمٍ مِنْ ذِكَايَةِ صَاحِبٍ لَمْ يَنْسُبْهَا، إِلَى أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ فِيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ يُخْبِرُ الْمَرْءُ مِنْ ظَنِّهِ الَّذِي يَقَعُ لَهُ فِي الْأَغْلَبِ عِنْدَهُ أَنَّهُ الْحَقُّ، كَمَا يُسَلِّمُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَهُوَ لَا يَشُكُّ عِنْدَ نَفْسِهِ أَنَّهَا أَرْبَعٌ، وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يُعْصَمْ مِنْهُ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: سَمِعْتُ أَمْرًا كَذَا، وَشَبَّثَ، وَهُوَ لَمْ يَسْمَعْهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا، وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ تَعَالَى حَفْصَةَ وَعَلِيًّا وَالْبَرَاءَ وَأَنَسًا عَنْ أَنْ يَقُولُوا: سَمِعْنَا، فِيمَا لَمْ يَسْمَعُوهُ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ ذَكَرَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ» ، قِيلَ لَهُ: نَعَمْ، قَدْ رُوِّينَا ذَلِكَ، وَذَكَرْنَاهُ، وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ فِي ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَلَعَلَّهُ سَمِعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ ذَلِكَ: إِذْ أَتَمَّ عُمْرَتَهُ، وَنَهَضَ إِلَى مِنًى، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ ذِكْرَ الْحَجِّ وَلَمْ يَسْمَعْ ذِكْرَ الْعُمْرَةِ، وَمَنْ زَادَ ذِكْرَ ⦗٤٤٢⦘ الْعُمْرَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ زَادَ عِلْمًا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي أَوْرَدْنَا مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ، إِذْ قَالَ: قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَرْوَةِ بِمِشْقَصِ أَعْرَابِيٍّ، هُوَ حَدِيثٌ مُشْكِلٌ، وَهُوَ حَدِيثٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَالَّذِي نَقَلَتْهُ الْكَوَافُّ، أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقَصِّرْ مِنْ شَعْرِهِ شَيْئًا، وَلَا أَحَلَّ مِنْ شَيْءٍ مِنْ إِحْرَامِهِ، إِلَّا حَتَّى حَلَقَ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ، وَأَعْطَى شَعْرَهُ أَبَا طَلْحَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فِيمَا خَلَا مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، وَلَعَلَّ مُعَاوِيَةَ عَنَى بِقَوْلِهِ: «بِحَجَّتِهِ» عُمْرَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ؛ لِأَنَّ مُعَاوِيَةَ قَدْ كَانَ أَسْلَمَ بَعْدَ حِينَئِذٍ، وَهَذَا الظَّنُّ لَا يُسَوَّغُ فِي رِوَايَةِ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، الَّتِي قَدْ ذَكَرْنَا لِأَنَّ فِيهِ بَيَانًا، أَنَّهُ كَانَ فِي ذِي الْحِجَّةِ، أَوْ لَعَلَّهُ قَصَّرَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَقِيَّةَ شَعْرٍ، لَمْ يَكُنِ اسْتَوْفَاهُ الْحَلَّاقُ بَعْدُ، فَقَصَّرَهُ مُعَاوِيَةُ عَلَى الْمَرْوَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخْطَأَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، فَجَعَلَهُ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، وَإِنَّمَا الْمَحْفُوظُ فِيهِ، أَنَّهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ عَنْ طَاوُسٍ وَهِشَامٌ ضَعِيفٌ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ " إِلَّا أَنَّ الْإِسْنَادَ فِي ذَلِكَ إِلَى مُعَاوِيَةَ جَيِّدٌ صَحِيحٌ، لَا مَطْعَنَ فِيهِ، إِلَّا أَنَّ ⦗٤٤٣⦘ الَّذِيَ لَا شَكَّ فِيهِ، أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ شَيْئًا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَلَا أَحَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ إِلَّا يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى إِذْ تَطَيَّبَ وَحَلَقَ، ثُمَّ أَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالْإِفْرَادِ لِلْحَجِّ فَلَا مُتَعَلَّقَ لَهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَلَا فِي غَيْرِهِ، وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُ النَّاسِ فِي حَدِيثِ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَأْوِيلًا بَيْنَ الْحَوَالَةِ، وَهُوَ أَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكِ، إِنَّمَا مَعْنَاهُ مِنَ الْعُمْرَةِ الَّتِي أَمَرْتَ النَّاسَ بِهَا قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحِلَّ أَحَدٌ مِنْ إِحْرَامِ غَيْرِهِ، وَلَا مِنْ عُمْرَةٍ اعْتَمَرَهَا سِوَاهُ، وَهَذَا مِنَ الْمُحَالِ الْمُمْتَنَعِ، وَسُؤَالٌ لَا يُعْقَلُ مِنْ لَفْظِ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَلَوْلَا أَنَّهُ عَلَيْهِ وَالسَّلَامُ كَانَ مُهِلًّا بِعُمْرَةٍ لَمْ يُهِلَّ مِنْهَا لَمَا أَقَرَّ حَفْصَةَ عَلَى ذَلِكَ السُّؤَالِ، وَقَالَ أَيْضًا قَائِلٌ: إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ اللَّفْظَةَ فِي حَدِيثِهِ، قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا خَطَأٌ بَلْ قَدْ ذَكَرَهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ كَمَا ذَكَرَهَا مَالِكٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ لَفْظِ الْعُمْرَةِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحَادِيثِ الْقِرَانِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَنَقُولُ: حَتَّى وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْهَا عُبَيْدُ اللَّهِ، لَمَا كَانَ لِأَحَدٍ فِي ذَلِكَ مُتَعَلَّقٌ؛ لِأَنَّ مَالِكًا لَيْسَ دُونَ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَهُوَ الْغَايَةُ فِي الْعَدَالَةِ فِي رِوَايَتِهِ، فَزِيَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ، فَسَقَطَ الِاعْتِرَاضُ عَلَى حَدِيثِ حَفْصَةَ جُمْلَةً، فَإِنْ تَعَلَّقَ مُتَعَلِّقٌ بِحَدِيثَيْنِ قَدْ ذَكَرْنَاهُمَا قَبْلُ، وَلَا عَلَيْنَا أَنْ نُعِيدَهُمَا لِنَسْتَوْفِيَ مُتَعَلَّقِ الْخَصْمِ، وَلَا نَدَعُ لَهُ مَقَالًا، ثُمَّ نُبَيِّنُ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى بُطْلَانَ شَغَبِهِ فِي ذَلِكَ، وَهُمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute