قلت: فإذا عرفت هذه الأصول تبينت أن القوم إنما كاعوا وجبنوا عن معارضة القرآن لما قد كان يئودهم ويتصعدهم منه , وقد كانوا بطباعهم يتبينون مواضع تلك الأمور ويعرفون ما يلزمهم من شروطها ومن العهدة فيها , ويعلمون أنهم لا يبلغون شأوها , فتركوا المعارضة لعجزهم , وأقبلوا على المحاربة لجهلهم , فكان حظهم مما فروا إليه حظهم مما فزعوا منه {فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين} والحمد لله رب العالمين.
فإن قيل: إنا إذا تلونا القرآن وتأملناه وجدنا معظم كلامه مبيناً ومؤلفًا من ألفاظ مبتذلة في خطابات العرب المستعملة في محاوراتهم , وحظ الغريب المشكل منه بالإضافة إلى الكثير من واضحه قليل , وعدد الفقر والغرر من ألفاظه بالقياس إلى مباذله ومراسيله عدد يسير , فكيف يتوهم عليهم العجز عن معارضته والإتيان بمثله , وهم عرب فصحاء مقتدرون على التصرف في أودية الكلام , عارفون بنظومه. قصيده ورجزه وسجعه , وسائر فنونه , فلو كانوا أرادوه وقنعوا عن شفاء الأنفس به لسهل ذلك عليهم , وإنما عاقهم عن ذلك رأي آخر كان أقوى في نفوسهم وأجدى عليهم في مبلغ آرائهم وعقولهم , وهو مناجزتهم إياه الحرب ومعالجته بالإهلاك استراحة إلى الخلاص منه , وكراهة لمطاولته على القول ومعارضته بالكلام الذي يقتضي الجواب , فيتمادى بهم الزمان للنظر فيه والانتقاد له , فتكثر الدعاوى , ويخفى موضع الفضل بين الكلامين , فمالوا إلى هذا الرأي قصدًا إلى اجتياحه واستئصاله , إذ كانوا فيما يرونه مستظهرين عليه مستعلين بالقدرة فوقه.
قيل: إنا قدمنا من بيان أوصاف بلاغة القرآن وذكرنا من شرائطها ما أسقطنا به عن أنفسنا هذا السؤال. وزعمنا أنها أمور لا تجتمع لأحد من