للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ونحن إنما نقول: إن العلماء بالله والعلماء بأمره أفضل من العباد، ولو كان العباد من العلماء بالله؛ لأنّ [العلماء] (١) الربانيين شاركوا العباد في فضيلة العِلْم بالله؛ بل ربما زادوا عليهم فيه، وانفردوا بفضيلة العِلْم بأمر الله، وبفضيلة دعوة الخلق إلى الله وهدايتهم إِلَيْهِ، وهو مقام الرسل -عليهم السلام- وكذلك كانوا خلفاء الرسل وورثتهم كما سيأتي ذكره -إن شاء الله تعالى.

وهذا القدر الَّذِي انفردوا به عن العُبَّاد أفضل من القدر الَّذِي انفرد به العُبَّاد من نوافل العبادة، فإن زيادة المعرفة بما أنزل الله على رسوله توجب زيادة المعرفة بالله والإيمان به، وجنس المعرفة بالله والإيمان [به] (١) أفضل من جنس العمل بالجوارح والأركان، ولكن من لا علم له تعظم في نفسه العبادات على العِلْم؛ لأنّه لا يتصور حقيقة العِلْم ولا شرفه، ولا قدرة له على ذلك، وهو يتصور حقيقة العبادات، وله قدرة على جنسها في الجملة.

ولهذا تجد كثيرًا ممن لا علم لديه يفضل الزهد في الدنيا على العلوم والمعارف وسببه ما ذكرناه.

وهو أنّه لا يتصور معنى العِلْم والمعرفة، ومن لا يتصور شيئًا لا يقر فى صدره عظمته، وإنما يتصور الجاهل بالعلم حقيقة الدنيا، وقد عظمت في صدره، فعظم عنده من تركها.

كما قال محمد بن واسع -وقد رأى (شابًّا) (*)، فقِيلَ لَهُ: هؤلاء زهاد- فَقَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ قَدْرُ الدُّنْيَا حَتَّى يُمْدَحَ مَنْ زَهِدَ فِيهَا.

وقال أبو سليمان الداراني قريبًا من هذا المعنى أيضاً، فالمفتخر بالزهد في الدنيا كأنّه يفتخر بترك نزر يسير من شيء هو أقل عند الله من جناح بعوضة، وهذا أحقر من أن يذكر، فضلاً عن أن يفتخر به.


(١) من المطبوع.
(*) شبابًا: "نسخة".

<<  <   >  >>