للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ﴾ (١) فَلَا حُجَّةَ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ دَلِيلٌ بَيِّنٌ أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكًا لَهُمْ وَمُمْكِنٌ أَنْ يَنْسُبَهَا إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَخْدِمُونَهَا وَيَتَوَلَّوْنَ أَمْرَهَا كَمَا يُقَالُ: هَذِهِ الدَّابَّةُ لِفُلَانٍ السَّائِسِ. وَالْعَرَبُ تَنْسُبُ الشَّيْءَ إِلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِذَا كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُلابَسَةٌ وَمُجَاوَزَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي﴾ (٢). وَلَيْسَ للَّهِ تَعَالَى مَقَامٌ وَلَا هُوَ مِنْ صِفَاتِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ مَقَامَهُ عِنْدَهُ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اللهُ تَعَالَى سَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ عَلَى جِهَةِ التَّرَحُّمِ الَّذِي تَسْتَعْمِلُهُ الْعَرَبُ فِي قَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ الْمِسْكِينِ، فَيُسَمُّونَهُ مِسْكِينًا إِشْفَاقًا وَتَحَنُّنًا وَلَيْسَ بِمِسْكِينٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَيُبَيِّنُ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قالَ: (مِسْكِينٌ رَجُلٌ لَا أَهْلَ لَهُ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ؟ قَالَ: (وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ) (٣).

وَلَمْ يَقَعِ الْخِلافُ بَيْنَنَا فِي الْمِسْكِينِ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا وَعَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْمِسْكِينِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِأَنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الْمَكْسُورُ الْفَقَارِ فَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا حُجَّةٌ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ قَوْلِهِمْ: فَقَرْتُ أَنْفَ الْبَعِيرِ إِذَا حَزَزْتَهُ بِحَدِيدَةٍ ثُمَّ وَضَعْتَ عَلَى مَوْضِعِ الْحَزِّ الْجَرِيرَ وَعَلَيْهِ وَتَرٌ مَلْوِيٌّ لِتُذِلَّهُ وَتَرُوضَهُ، فَيَكُونُ الْفَقِيرُ إِنَّمَا سُمِّيَ فَقِيرًا لِأَنَّ الدَّهْرَ أذَلَّهُ.

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَبْيَاتٍ أَنْشَدَهَا ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ حِجَاجِهِمْ وَهِيَ: (رجز)

هَلْ لَكَ فِي أَجْرٍ عَظِيمٍ تُؤجَرُهْ


(١) سورة الكهف (١٨): الآية ٧٨.
(٢) سورة إبراهيم (١٤): الآية ١٧.
(٣) لم نجد الحديث في أي من كتبه.

<<  <  ج: ص:  >  >>