للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُخَفَّفَةَ مِنَ الْمُشَدَّدَةِ يَلْزَمُهَا الْعِرَضُ مِنَ الْمَحْذُوفِ مِنْهَا. وَالْعِوَضُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءٍ: السِّينُ وَسَوْفَ وَقَدْ وَلَا الَّتِي لِلنَّفْيِ كَقَوْلِكَ: عَلِمْتُ أَنْ سَتَقُومُ، وَأَيْقَنْتُ أَنْ سَوْفَ تَخْرُجَ، وَتَحَقَّقْتُ أَنْ قَدْ ذَهَبَ، وَمَا يَعْتَرِضُنِي شَكٌّ فِي أَنْ لَا تَفْعَلْ، وَإِنَّمَا لَزِمَ وُقُوعُ الْأَفْعَالِ الْمُحَقَّقَةِ قَبْلَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الْمُشَدَّدَةِ، وَلُزُومُ الْأَفْعَالِ غَيْرِ الْمُحَقَّقَةِ قَبْلَ النَّاصِبَةِ لِلْفِعْلِ لِأَنَّ الْمُشَدَّدَةَ إِنَّمَا دَخَلَتْ فِي الْكَلَامِ لِتَحْقِيقِ الْجُمُلِ وَتَأْكِيدِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ قَبْلَهَا مُحَقَّقٌ لِأَنَّهُ مُشَاكِلٌ لَهَا وَمُطَابِقٌ لِمَعْنَاهَا.

وَلَمَّا كَانَتْ "أَنْ" النَّاصِبَةُ لِلْفِعْلِ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِنَصْبِ الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَالْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ مِمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ وَمُمْكِنٌ أَلَّا يَكُونَ وَجَبَ أَنْ يَقَعَ قَبْلَهَا كُلُّ فِعْلٍ غَيْرِ مُحَقَّقٍ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَعْنَاهَا، فَإِذَا وَقَعَ قَبْلَهَا الظَّنُّ وَالْحُسْبَانُ جَازَ أَنْ تَكُونَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الشَّدِيدَةِ وَجَازَ أَنْ تَكُونَ النَّاصِبَةَ لِلْفِعْلِ لِأَنَّ الظَّنَّ خَاطِرٌ يَخْطِرُ بِالنَّفْسِ فَيَتَقَوَّى تَارَةً وَيَضْعُفُ تَارَةً، فَإِذَا قَوِيَ وَكَثُرَتْ شَوَاهِدُهُ وَدَلَائِلُهُ صَارَ كَالْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ اسْتَعْمَلَتِ الْعَرَبُ الظَّنَّ بِمَعْنَى الْيَقِينِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ إظْهَارَ "أَنَّ" فِي الْخَطِّ، إِذَا كَانَتْ مُخَفَّفَةً مِنَ الْمُشَدَّدَةِ، وَتَرْكُ إِظْهَارِ غَيْرِ الْمُخَفَّفَةِ هُوَ الْقِيَاسُ لأَنَّ سَبِيلَ مَا يُدْغَمُ فِيهِ أَلَّا يَكُونَ فِيهِ حَاجِزٌ مِنْ حَرَكَةٍ وَلَا حَرْفٍ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِزٌ بَطَلَ الْإِدْغَامُ، وَلِذَلِكَ لَزِمَ أَلَّا يُدْغَمَ شَيْءٌ فِي مِثْلِهِ أَو مُقَارِبِهِ حَتَّى تُسْلَبَ عَنْهُ حَرَكَتُهُ لِأَنَّ الْحَرَكَةَ تَحُولُ بَيْنَهُمَا إِذَا كَانَتْ رُتْبَةُ الْحَرَكَةِ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ الْحَرْفِ، فَلَمَّا كَانَ اسْمُ "أَنْ" الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الْمُشَدَّدَةِ مُضْمَرًا بَعْدَهَا مُقَدَّرًا مَعَهَا صَارَ حَاجِزًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ لَا، فَبَطُلَ إِدْغَامُ النُّونِ مِنْ "أَنْ" فِي لَامِ "لَا" لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَلَمَا كَانَتْ "أَنْ" النَّاصِبَةُ لِلْأَفْعَالِ لَيْسَ بَعْدَهَا شَيْءٌ مُضَمَرٌ بَاشَرَتِ النُّونِ لَامُ "لَا" مُبَاشَرَةَ الْمِثْلِ لِلْمِثْلِ وَالْمُقَارِبِ لِلْمُقَارِبِ فَوَجَبَ إِدْغَامُهَا فِيهَا فَانْقَلَبَتْ إِلَى لَفْظِهَا فَلَمْ يَجُزْ ظُهُورُهَا فِي الْخَطِّ" (١).


(١) الاقتضاب: ٢/ ١٢١ - ١٢٣ أدب الكتاب: ٢٤٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>