قلت: رأيت مجلدا من طرق الحديث لابن جرير فاندهشت له ولكثرة تلك الطرق. قال: ورحل محمد لما ترعرع من آمل وسمح له أبوه وكان طول حياته يوجه إليه بالشيء إلى البلدان، قال لي: أبطأت عني نفقه أبي حتى بعت كمي قميصي. قلت: لو أشاء لكتبت عشرين ورقة من سيرة هذا الإمام.
حكى التنوخي عن عثمان بن محمد السلمي حدثني ابن منجو القائد قال حدثني غلام لابن المزوق قال: اشترى مولاي جارية فزوجنيها فأحببتها وأبغضتني وضجرت فقلت لها: أنت طالق ثلاثا لا تخاطبيني بشيء إلا قلت لك مثله فكم احتملتك؟ فقالت في الحال: أنت طالق ثلاثا، فأبلست فدللت على ابن جرير، فقال: أقم معها بعد أن تقول: أنت طالق ثلاثا إن طلقتك. وذكرها ابن عقيل، ثم قال: وله جواب آخر أن تقول كقولها سواء قل: أنتَ طالق ثلاثا -بفتح التاء- فلا تحنث. قال ابن الجوزي: وما كان يلزمه أن يقول لها ذلك على الفور فله التمادي إلى قبل الموت. قلت: ولو قال لها أنت طالق ثلاثا؟ وقصد الاستفهام لم تطلق وكذا لو قال وعني به طالق من وثاقي أو عني به الطلق وقت ولادتها.
وثم جواب آخر على مذهب من يراعي سبب اليمين ونية الحالف بأنه ليس عليه أن يقول لها ما قالت فإنه من المعلوم استثناء ذلك بقرينة الحال؛ لأنه ما قصد إلا أن كلما آذته بكلام آذاها بمثله، وجوابه لها بالطلاق ليس بمؤذ لها، بل مؤذ له وسار لها كما يفهم كل عالم من قوله:{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْء} استثناء اللحية والذكر وغير ذلك. وقوله تعالى:{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْء} إنها ما دمرت السماء ولا الجبال فيخرج من عموم كل إذا نطق بها المتكلم أشياء معلومة الاستثناء بالضرورة وذلك فصيح كثير إذ القائل ما قصد إدخال ذلك في عموم قوله أصلا، ومن المعلوم بالضرورة أن حالفا لو حلف لا تقول فلانة شيئا إلا قلت مثله فكفرت وسبت الرسل وسكت هو عن جوابها بمثله لم يحنث؛ نعم، إلا أن ينوي إدخال مثل ذلك في حلفه ونعوذ بالله من الضلال.
وأما على مذهب داود وابن حزم والشيعة وغيرهم فلا حنث عليه وهي زوجته ورأوا أيمان الطلاق لغوا وأنه لا حلف إلا بالله تعالى؛ وذهب إمام من علماء عصرنا إلى أن الحالف بالطلاق تلزمه كفارة إذا فعل المحلوف عليه ولم تطلق منه زوجته إلا بطلاق غير معلق على حض أو منع أو أن يقصد بالشرط الجزاء ولم يقصد اليمين، كأن يقول لها إن زنيت فأنت طالق أو تركت الصلاة فأنت طالق مني فهذه تطلق منه بوجود ذلك منها.
والذي عرفنا من مذهب بعض السلف الكفارة في من حلف بعتق عبيده أو حلف بالحج حافيا أو حلف بصدقة ما يملك ولم يأت عنهم كفارة في الحلف بالطلاق فيما علمت.