للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

كَامِل نَبِي أَو غَيره غيرُ آمن من مكر الله تَعَالَى أَن يُضعفهُ وينزله عَن كَمَال مرتبته إذْ لَا قَاطع بل وَلَا ظَنِّي يسْتَند إِلَيْهِ فِي الْأَمْن من ذَلِك، وَإِنَّمَا الْمَأْمُون الانسلاخ عَن النبوّة أَو الملكية أَو الْإِيمَان فِي الْعشْرَة الْمَذْكُورين على أَن الْأَمْن من الانسلاخ عَن الملكية غير وَاقع لِأَنَّهُ عهد انسلاخ الْمَلَائِكَة عَنْهَا بل عَن الْإِيمَان كَمَا وَقع لإبليس اللعين بِنَاء على الْأَصَح كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ أَنه من الْمَلَائِكَة كَمَا هُوَ ظَاهر الْقُرْآن، وَأول كَونه من الْجِنّ بتأويلات: مِنْهَا: أَن نوعا من الْمَلَائِكَة يسمون بذلك. الثَّانِي: أَنه فِي الْإِحْيَاء لَازم بَين الْعلم وَالْخَوْف وَالتَّقوى حَيْثُ جعل الْخَوْف ثَمَرَة الْعلم وَالتَّقوى ثَمَرَة الْخَوْف وَلَا شكّ أَن كَمَال الْعلم وَالتَّقوى للأنبياء فَمن دونهم فَكَذَا كَمَال الْخَوْف. وَأَيْضًا الرَّجَاء وَالْخَوْف متلازمان، فإنَّ كلَّ من رجا محبوباً فَلَا بُد وأنْ يخَاف فَوته وَإِلَّا فَهُوَ لَا يُحِبهُ، فاستحال انفكاك أَحدهمَا عَن الآخر وَإِن أمكن غَفلَة الْقلب عَن استشعار أَحدهمَا. فَإِن قلت: ذكر فِيهِ أَيْضا أَن من شَرط الرَّجَاء وَالْخَوْف تعلقهما بِمَا هُوَ مَشْكُوك فِيهِ إذْ الْمَعْلُوم لَا يُرجى وَلَا يُخاف وَهَذَا فِيهِ تأييد لذَلِك الزَّعْم، لِأَن أُولَئِكَ الكُمَّل على بَيِّنَة مِنْ رَبهم ويقين من أَمرهم؟ قلت: لَا تأييد فِيهِ لذَلِك الزَّعْم بِوَجْه بل هُوَ حجَّة عَلَيْهِ، لِأَن الْمَعْنى السَّابِق الَّذِي مرَّ أنَّ حَقِيقَة الْخَوْف أَمر مشكُوك فِيهِ لم يقم قَاطع على ثُبُوت غَايَته وَلَا حدَّ بِخُصُوصِهِ وَلَا على انتفائهما عَنهُ، وَإِنَّمَا وَظِيفَة الكمل وَإِن بلغ كمالهم الْغَايَة أَنهم يرجون ذَلِك وَيَخَافُونَ من عَدمه، وَالَّذِي هم فِيهِ على يَقِين هُوَ أصل الْكَمَال على أَنه قد يعتري قلوبَهم من استشعار قُدْرته واستغنائه عَن خلقه، وَأَنه لَا يُسْئل عَمَّا يفعل وَلَا يجب عَلَيْهِ لأحد شَيْء، وَأما مَا وعدهم أَو أخْبرهُم بِهِ فمشروط بِمَا انطوى علمه عَنْهُم، وَهَذَا يُوجب لَهُم الْخَوْف حَتَّى مِنْ سَلْب أصل كمالهم وَكَلَام الْغَزالِيّ الْآتِي صَرِيح فِي هَذَا. الثَّالِث: أَن زيد بن أسلم قَالَ: الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ من الْعَالمين بِالْقُرْآنِ جعل الْمَلَائِكَة داخلين فِي قَوْله: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الْأَعْرَاف: ٩٩] الْآيَة. أخرج ابْن أبي حَاتِم عَنهُ (إِن الله تبَارك وَتَعَالَى قَالَ للْمَلَائكَة مَا هَذَا الْخَوْف الَّذِي بلغ بكم وَقد أنزلتكم الْمنزلَة الَّتِي لم أنزلهَا غَيْركُمْ؟ قَالُوا رَبنَا لم يَأْمَن مكرك إِلَّا الْقَوْم الخاسرون) . الرَّابِع: أَنه صرح فِي (الْإِحْيَاء) تَصْرِيحًا لَا يقبل تَأْوِيلا بِأَن الْأَنْبِيَاء يخَافُونَ وَلَا يأمنون الْمَكْر حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ خوف الْأَنْبِيَاء مَعَ مَا فاض عَلَيْهِم من النعم لأَنهم لم يأمنوا مكر الله وَلَا يَأْمَن مكر الله إِلَّا الْقَوْم الخاسرون حَتَّى رُوِيَ (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام بكيا خوفًا من الله عز وَجل، فَأوحى الله إِلَيْهِمَا لم تبكيان وَقد أمَّنتكما؟ فَقَالَا: وَمن يَأْمَن مكرك) وكأنهما إذْ علما أَن الله علام الغيوب وأنهما لَا وقُوف لَهما على غَايَة الْأُمُور لم يأمنا أَن يكون قَوْله: قد أمنتكما ابتلاء وامتحاناً ومكرا بهما، حَتَّى إنْ سكن خوفهما بَان أَنَّهُمَا قد أمِنا من المكْر وَمَا وَفيَا بقولهمَا، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا كَمَا أخبر عَن مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ قَالَ: {قَالَا رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى} [طه: ٤٥] ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَا تَخَافَآ إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: ٤٦] وَمَعَ هَذَا لما ألْقى السَّحَرَة سحرهم {لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأٌّعْلَى} [طه: ٦٨] إذْ لم يَأْمَن من مكر الله وَالْتِبَاس الْأَمر عَلَيْهِ حَتَّى جدد عَلَيْهِ الْأَمْن، وَقيل لَهُ: {قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأٌّعْلَى} [طه: ٦٨] وَلما ضعفتْ شَوْكة الْمُسلمين يَوْم بدر قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اللَّهُمَّ إِن تهْلك هَذِه الْعِصَابَة لم يبْق على وَجه الأَرْض أحد يعبدك فَقَالَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ دع مُنَاشَدَتك رَبك فَإِنَّهُ واف لَك بِمَا وَعدك) فَكَانَ مقَام الصّديق مقَام الثِّقَة بوعد الله وَكَانَ مقَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مقَام الْخَوْف من مكر الله وَهُوَ لَا يصدر إِلَّا عَن كَمَال الْمعرفَة بأسرار الله وخفايا أَفعاله ومعاني صِفَاته الَّتِي يعبر عَن بعض مَا يصدر عَنْهَا بالمكر، وَمَا لأحد من الْبشر الْوُقُوف على كنه صِفَات الله تَعَالَى، وَمن عرف حَقِيقَة الْمعرفَة قصر مَعْرفَته عَن الْإِحَاطَة بكُنه الْأُمُور وَعظم خَوفه لَا محَالة وَلذَا قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلاة وَالسَّلَام: {قَالَ اللَّهُ هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأٌّنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الْمَائِدَة: ١١٩] إِلَخ ففوض الْأَمر إِلَى الْمَشِيئَة وَأخرج نَفسه بِالْكُلِّيَّةِ من الْبَين لعلمه بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ من الْأَمر شَيْء، وَأَن الْأُمُور مرتبطة بِالْمَشِيئَةِ ارتباطاً يخرج عَن حد المعقولات والمألوفات فَلَا يُمكن الحكم عَلَيْهَا بِقِيَاس وَلَا حدس وحسبان فضلا عَن التَّحْقِيق والاستيقان، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قطع قُلُوب العارفين انْتهى كَلَام (الْإِحْيَاء) فَتَأَمّله لَا سِيمَا مَا حَكَاهُ عَن نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُ وإنْ لم يثبت من جِهَة السّنة إذْ هُوَ حَدِيث ضَعِيف فَهُوَ مُقَرر لِمَعْنى الصَّحِيح فَمَا قدمْنَاهُ وَكَذَا مَا حَكَاهُ عَن مُوسَى فَإِنَّهُ خَافَ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {لَا تَخَافَآ إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: ٤٦] وَتَقْرِيره لذَلِك. وَالْحَاصِل أَنه لَا شُبْهَة بل وَلَا تمسك لذَلِك الزَّعْم الْمَذْكُور أول الْجَواب أعاذنا الله مِنْهُ بمنّه وَكَرمه،

<<  <   >  >>