للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

النكت فِي تِلْكَ الْآيَة يَأْتِي فِي نظائرها الَّتِي أَشرت إِلَيْهَا فتفطن لذَلِك فَإِنَّهُ أهم وَهَذَا كُله لم أر من نبه على شَيْء مِنْهُ ثمَّ رَأَيْت الْبَيْضَاوِيّ أَشَارَ إِلَى بعض هَذِه النُّكْتَة الْأَخِيرَة بقوله وَكَانَ من فسادهم فِي الأَرْض تهييج الحروب والفتن بمخادعة الْمُسلمين وممالآة الْكفَّار عَلَيْهِم وإفشاء الْأَسْرَار إِلَيْهِم فَإِن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى فَسَاد من فِي الأرئض من النَّاس وَالدَّوَاب والحرث وَمِنْه إِظْهَار الْمعاصِي والإهانة بِالدّينِ فَإِن الْإِخْلَال بالشرائع والإعراض عَنْهَا مِمَّا يُوجب الْهَرج والمرج ويخل انتظام الْعَالم انْتهى وَرَأَيْت أَبَا حَيَّان أَشَارَ إِلَى ذَلِك وَإِلَى مَا ذكرته أَو لَا من أَنه ذكر فِيهَا أَيْضا لإِفَادَة الْعُمُوم أَي التَّنْصِيص عَلَيْهِ لما قَدمته وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذا تولى سعى فِي الأَرْض ليفسد فِيهَا} مَعْلُوم أَن السَّعْي لَا يكون إِلَّا فِي الأَرْض لَكِن أَفَادَ بِهِ الْعُمُوم بِمَعْنى فِي أَي مَكَان حل مِنْهَا مَعَ الْفساد وَيدل لفظ فِي الأَرْض على كَثْرَة سَعْيه وتقلبه فِي نواحي الأَرْض لِأَنَّهُ يلْزم من عُمُوم الأَرْض تكْرَار السَّعْي وَتقدم مَا يُشبههُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تفسدوا فِي الأَرْض} وَيُمكن اسْتِخْرَاج نُكْتَة أُخْرَى وَهِي التَّعْرِيض بصلاح الأَرْض وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بإفسادهم رفع ذَلِك الصّلاح الَّذِي امتن الله بِهِ على أَهلهَا إِمَّا بِكَوْنِهِ تَعَالَى أصلح خلقهَا على الْوَجْه المطابق لمنافع الْخلق وَإِمَّا بِكَوْنِهِ بعث فِيهَا الرُّسُل وَأنزل الْكتب وَفصل الشَّرَائِع وفسادها حِينَئِذٍ إِمَّا بإفساد النُّفُوس بِالْقَتْلِ وَقطع الأعصاب وَإِمَّا بإفساد الْأَمْوَال بِنَحْوِ النهب ووجوه الْحِيَل وَإِمَّا بإفساد الْأَدْيَان بالْكفْر والبدع وَإِمَّا بإفساد الْأَنْسَاب بِالزِّنَا واللواط وَالْقَذْف وَإِمَّا بإفساد الْعُقُول بِشرب المسكرات فَاقْتضى النَّهْي عَن الْفساد فِي الأَرْض منع إِدْخَال مَاهِيَّة الْفساد فِي الْوُجُود بِجَمِيعِ أَنْوَاعه وأصنافه ونكتة أُخْرَى وَهِي تذكيرهم بِنِعْمَة الله الْعُظْمَى عَلَيْهِم الْمشَار إِلَيْهَا بقوله هُوَ أنشأكم من الأَرْض واستعمركم فِيهَا أَي جعلكُمْ عمارها وسكانها أَو أَطَالَ أعماركم فِيهَا أَو جعلهَا لكم مَا عشتم أَو أسكنكم فِيهَا وخلقكم لعمارتها أَو استدعى مِنْكُم عمارتها وَكَانَ التَّقْدِير لَا تفسدوا فِيمَا جعلتم عماره وخلقتم لعمارته وسكناه مَعَ جعله لكم فِيهَا مَا عشتم وَطَلَبه مِنْكُم أَن تعمروه بصلاح الْأَعْمَال وَالْأَمْوَال وَالْأَحْوَال وَفِي هَذَا من حملهمْ على الصّلاح وإرشادهم إِلَى النجاح مَا لَيْسَ فِيهِ مِمَّا لم يذكر فِي الأَرْض فَكَانَ فِي ذكره الْمُفِيد لذَلِك فَائِدَة أَي فَائِدَة (وَسُئِلَ) نفع الله بِهِ أَيْضا عَمَّا سَأَلَهُ الْعِزّ بن عبد السَّلَام فِي أَمَالِيهِ بقوله ذكر الْأَزْمِنَة فِي مثل قَوْله تَعَالَى {وَإِذ نجيناكم} {وَإِذ واعدنا مُوسَى} وَغير ذَلِك من الْمَوَاضِع الَّتِي حصل فِيهَا الامتنان بِالنعَم بِجعْل الممتن بِهِ نفس الزَّمَان وَمثله قَول من قَالَ من الْعَرَب

(أنسيت يَوْم عكاظ إِذْ لاقيتني ... تَحت العجاج وَلم يشق غباري)

وَالْمرَاد مَا وَقع فِي الْيَوْم لَا نفس الْيَوْم مَا فَائِدَة ذَلِك وَلَو ذكر النعم فَقَط اسْتَقل الْمَعْنى اه فَمَا جَوَاب ذَلِك (فَأجَاب) نفع الله بِهِ بقوله لذَلِك حِكْمَة ظَاهِرَة جلية وبيانها إِجْمَالا أَن إِذْ فِي نَحْو ذَلِك معمولة لمَحْذُوف تَقْدِيره واذْكُرُوا وَقت كَذَا هَذَا هُوَ الْأَصَح وَأَن التَّذْكِير بِمُجَرَّد النعم لَيْسَ فِيهِ التَّنْبِيه على أضدادها بِوَجْه أظهر بِخِلَاف التَّذْكِير بهَا بِالَّتِي وَقعت فِيهِ وتفصيلا أَن الشَّيْء كلما لوحظ خطره ثمَّ النجَاة مِنْهُ ثمَّ تبديله بِالنعَم الْمَحْضَة يكون ذَلِك أدعى إِلَى مزِيد الشُّكْر عَلَيْهِ والخضوع لموليه ومسديه وَإِلَى الِاعْتِرَاف بِهِ وَإِلَى عدم مُخَالفَة الْمُنعم فِي شَيْء من أوامره أَو نواهيه فَلهَذَا ذكر تَعَالَى زمن النعم الَّتِي امتن بهَا على عباده وَذكرهمْ بذلك الزَّمن ليذكرهم مَا كَانُوا فِيهِ من المحن فِي ذَلِك الزَّمن قبل وُصُول تِلْكَ النعم إِلَيْهِم فَإِذا ذكرُوا ذَلِك عظمت النعم عِنْدهم عَظمَة لَا نِهَايَة لَهَا وَوَقعت تِلْكَ الْمِنَّة مِنْهُم الْموقع الْعَظِيم الاعظم ولاجل هَذَا ذكرنَا فِي آيَات كَثِيرَة أحوالنا السَّابِقَة لنشكره عَلَيْهَا وعَلى أحوالنا اللاحقة بِكَوْنِهِ خلقنَا من تُرَاب ثمَّ من نُطْفَة ثمَّ من علقَة ثمَّ من مُضْغَة ثمَّ أخرجنَا من بطُون أمهاتنا لَا نعلم شيأ وَلَا نقدر على شَيْء فيسر لنا من قَامَ بمصالحنا إِلَى أَن من علينا بِنِعْمَة الْهِدَايَة والوقاية وبكونه جعل لنا عينين وَلِسَانًا وشفتين وهدانا النجدين وَنَحْو ذَلِك من النعم الَّتِي لَا تحصى والمنن الَّتِي لَا تستقصى كَمَا يظْهر لَك بتدبر الْآي القرآنية وَبِمَا تقرر علم أَن قَول الْعِزّ لَو ذكرت النعم فَقَط اسْتَقل الْمَعْنى فِيهِ نظر لِأَن الْمَعْنى الْمَقْصُود الَّذِي قَرَّرْنَاهُ لَا يحصل كَمَاله بِمُجَرَّد ذكر النعم فَقَط بل بِذكر زَمَنهَا وَلَعَلَّه أَرَادَ بِالْمَعْنَى أَصله لكنه غير مجد لِأَن جزالة مَعَاني الْقُرْآن وبداعة أساليبه تَقْتَضِي رِعَايَة أبلغ الْمَرَاتِب وأسنى

<<  <   >  >>