للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

مِمَّنْ أسلم وجهه لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} الآية، ثم أفلج اللَّهُ حُجَّةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ مِنْ أهل الأديان. وكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَخَاصَمَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ، فَقَالَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ: كِتَابُنَا خَيْرُ الْكُتُبِ، وَنَبِيُّنَا خَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَالَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ: مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَالَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ: لَا دِينَ إِلَّا الْإِسْلَامُ، وَكِتَابُنَا نَسَخَ كُلَّ كِتَابٍ؛ وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ النبيين، وأمرتهم وَأُمِرْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِكِتَابِكُمْ وَنَعْمَلَ بِكِتَابِنَا فَقَضَى الله بينهم وقال: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يعمل سوءاً يُجْزَ بِهِ} الآية؛ وخيِّر بَيْنَ الْأَدْيَانِ فَقَالَ: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وجهه لله وهو مُحْسِنٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَتِ الْعَرَبُ لَنْ نُبعث وَلَنْ نُعذب؛ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أو نصارى} وقالوا: {لن تمسنا النار إلا أياما معدودات} وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الدِّينَ لَيْسَ بالتحلي ولا بالتمني؛ ولكن ما قر في القلوب وصدقته الأعمال، وَلَيْسَ كُلُّ مَنِ ادَّعَى شَيْئًا حَصَلَ لَهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، وَلَا كُلُّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ هو على الحق سُمِعَ قَوْلُهُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنَ اللَّهِ بُرْهَانٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سوءاً يُجْزَ بِهِ} أَيْ لَيْسَ لَكُمْ وَلَا لَهُمُ النَّجَاةُ بِمُجَرَّدِ التمني؟ بل العبرة بطاعة الله سبحانه واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الْكِرَامِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}، كَقَوْلِهِ: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ؛ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.

وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، قَالَ الإمام أحمد بسنده أخبرت إن أبا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كيف الفلاح بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يعمل سوءاً يجزبه} فكل سوء عملناه جُزيناه بِهِ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْتَ تمرض؟ ألست تنصب؟ أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ»؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: «فَهُوَ مما تجزون به» وروى أبو بكر بن مردويه عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً} فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت عليّ» قلت: بلى يا رسول الله قال: فأقرأنيها فلا أعلم أني قد وجدت انفصاماً في ظهري حتى تمطيت لَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مالك يَا أَبَا بَكْرٍ»؟ قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يا رسول الله، وأينا لم يعلم السُّوءَ، وَإِنَّا لَمَجْزِيُّونَ بِكُلِّ سُوءٍ عَمِلْنَاهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فإنكم تجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة». وقال ابن جرير: لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر: جَاءَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنما هي المصيبات في الدنيا». (حَدِيثٌ آخَرُ) قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عائشة: أن رجلاً تلى هذه الآية: {من يعمل سوءا يُجْزَ بِهِ} فقال: إنا لنجزى بكل ما عملناه هَلَكْنَا إذًا فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «نَعَمْ يُجْزَى بِهِ الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا فِي نَفْسِهِ فِي جَسَدِهِ فِيمَا يُؤْذِيهِ».

(طَرِيقٌ أُخْرَى) قَالَ ابْنُ أَبِي حاتم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَشَدَّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: "ما هي يا عائشة؟ قتل: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} فَقَالَ: «هُوَ مَا يُصِيبُ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ حَتَّى النَّكْبَةُ يُنْكَبُهَا». وعن علي بن زيد عن ابنته أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {مَنْ يعلم سوءاً يُجْزَ بِهِ} فقالت: ما سألني أحد عن هذه الآية منه سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ هَذِهِ مُبَايَعَةُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ مِمَّا يُصِيبُهُ مِنَ الْحُمَّى وَالنَّكْبَةِ وَالشَّوْكَةِ حَتَّى البضاعة فيضعها فِي كُمِّهِ فَيَفْزَعُ لَهَا فَيَجِدُهَا فِي جَيْبِهِ حَتَّى إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِيَخْرُجُ

<<  <  ج: ص:  >  >>