ولاحقها، لابد لها من خالق أوجدها، إذ لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها؛ ولا يمكن أن توجد صدفة.
لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها؛ لأن الشيء لا يخلقُ نفسه؛ لأنه قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقًا؟!
ولا يمكن أن توجد صدفة؛ لأن كل حادث لابد له من محدث، ولأن وجودها على هذا النظام البديع، والتناسق المتآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب ومسبباتها، وبين الكائنات بعضها مع بعض يمنعُ منعًا باتًّا أن يكون وجودها صدفة، إذ الموجود صدفة ليس على نظام في أصل وجوده فكيف يكون منتظمًا حال بقائه وتطوره؟!
وإذا لم يمكن أن توجد هذه المخلوقات نفسها بنفسها، ولا أن توجد صدفة؛ تعيَّن أن يكون لها موجد هو الله رب العالمين.
وقد ذكر الله تعالى هذا الدليل العقلي، والبرهان القطعي، حيث قال:(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)[سورة الطور: ٣٥] . يعني: أنهم لم يُخْلَقُوا من غير خالق، ولا هم الذين خلقُوا أنفسهم؛ فتعين أن يكون خالقهم هو الله تبارك وتعالى، ولهذا لما سمع جبير بن مطعم t رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الطور فبلغ هذه الآيات: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السموات وَالأرْضَ
بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ
الْمُصَيْطِرُونَ) [سورة الطور: ٣٥-٣٧] .
وكان جبير يومئذ مشركًا قال:(كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي)(١) .
ولنضرب مثلاً يوضح ذلك: فإنه لو حدَّثك شخص عن قصرٍ مشيَّد، أحاطتْ به الحدائق، وجرت بينها الأنهار، ومُلئ بالفرش والأسِرَّة، وزُيِّن بأنواع الزينة من مقوماته ومكملاته، وقال لك: إنَّ هذا القصر وما فيه من كمال قد أوْجد نفسه، أو وُجِد هكذا صدفة بدون مُوجد؛ لبادرت إلى إنكار ذلك وتكذيبه، وعددت حديثهُ سفهًا من القول، أفيجوز بعد ذلك أن يكون هذا الكون الواسع: بأرضه، وسمائه، وأفلاكه، وأحواله، ونظامه البديع الباهر، قد أوجَدَ نفسه، أو وُجد صدفة بدون موجد؟!
٣- وأما دلالة الشرع على وجود الله - تعالى-: فلأن الكتب السماوية كُلَّها تنطقُ بذلك، وما جاءت به من الأحكام العادلة المتضمنة لمصالح الخلق؛ دليل على
(١) رواه - البخاري - مفرقًا، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الطور، رقم (٤٥٧٣) .